قبل آلاف السنين.. وجد العربي نفسه فجأة في صحراء مترامية الأطراف.. مليئة بكثبان الرمال المتراكمة.. والوديان الهابطة.. والجبال الشامخة تمور رمالها الذهبية في حركة دائبة لا تعرف الاستقرار..
صحراء تمتد من الشرق حتى تغسل أهدابها في مياه الخليج.. وتتلفت نحو الغرب لتجد جبال السروات مصدا طبيعيا لزحف المياه المالحة لئلا تأكل أطراف الصحراء.
هكذا وجد العربي نفسه في هذا العالم المليء بالألغاز والخوف وشظف العيش.. فلم يعقه العجز عن نيل مآربه.. ولم يشده الخوف عن اقتحام مجاهل الصحراء.. ولم يثنه الجهل عن تحقيق مصالحه في هذه الحياة.. فألهمه الله.. ثم الطبيعة في الصحراء أن يخترع أدوات عيشه.. وأن يوجد أسباب رزقه.. ولأن لابد له في البدء أن يعرف الاتجاهات نظر في النجوم وأوجد لها الأسماء وأخذ يستدل بها.. فهذا زحل.. وتلك الثريا.. وهذا العيوق.. الى آخر ما في المجرة الدنيا من كواكب..
وعندما أراد الانتقال من مضارب قبيلته الى مضارب جيرانه وخشى الضباع في الصحراء اشتغل بالقيافة لمعرفة آثار أبناء القبيلة ومواشيهم وأنعامهم.. وفي سبيل البحث عن مكامن المياه استدل بحركة الطيور وبحواس البهائم واستعمل حاسته الخاصة لمعرفة مواطن المياه.. فاحتفر الآبار واستخرج المياه لسد حاجته وحاجة أنعامه.. واستعمل بطون الجمال لتخزين المياه أثناء الانتقال في الصحراء بما يكفيه أياما وليال دون الخوف من الانقطاع.. وكانت الجمال خير وسيلة للانتقال من مكان الى آخر في صحراء لا يعلم مداها الا الله.. فالجمال تنقل الناس والمتاع والماء دون ضجر أو كلل أو تعب. وعندما حل المرض في القبيلة اخترع العربي الدواء.. الحجامة والكي وغسيل المعدة بأوراق الأشجار البرية بعد غليها.. والحمية والعزل في الأمراض المعدية.
حتى أوقات الفراغ عالجها العربي بإنشاء الأشعار ونقل الرواة للأخبار ووضع لنفسه وقبيلته أعرافا وتقاليد وشرائع ظلت سائدة حتى اليوم إلا ما أبطله الاسلام وقضت عليه المدنية.
نعم.. قبل آلاف السنين اقتحم العربي مجاهل الصحراء بأدواته البسيطة ليس له من سلاح سوى ذكائه الفطري وما حباه الله من قوة الاحتمال.. وسلاح يدافع به عن نفسه ويصطاد به غذاءه دون أن يعلم أن خارج صحرائه أقواما يعيشون في فارس وأوروبا ومصر الفرعونية وبلاد سومر.. أناسا يجلس ملوكهم على كراسي من فضة ويتوجون رؤوسهم بتيجان من ذهب ولؤلؤ.. تجري من تحتهم الأنهار وتظلل طرقاتهم الأشجار وتسقط عليهم الثمار من كل جانب. اقتحم الصحراء.. حتى اذا وجد منابع المياه أقام عليها.. فأسس الحواضر و أنشأ المدن.. فقامت حضارات تحيط بالصحراء من جميع أطرافها ونواحيها.. وأصبحت قوافله تنتقل في رحلات منظمة من الشمال الى الجنوب.. ومن الشرق الى الغرب وبالعكس حاملة الثمار والمال والرجال الى كل اتجاه.. فكانت رحلة الشتاء والصيف من الرحلات التي خلدها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. لقد اقتحم العربي الصحراء بتلك الأدوات البدائية البسيطة.. إلا أنه استطاع أن يشارك الطير في أوكارها.. والشياطين في بيدائها.. والجن في مواطنها لينشىء حضارة امتدت من بلاد الرافدين الى مدائن سبأ ومأرب.. ومن سيناء الى تهامة الحجاز.. ومن فلسطين حتى مصب دجلة والفرات. ولقد تلقف العربي كل ما جاء عن الله على ألسنة رسله ممن بلغت دعوتهم بلاد العرب فآمن بها وسار على هديها حتى أضاء الله بنور الاسلام آفاق الدنيا.. وبدد به دياجير الظلام فكان العربي هو رسول السلام الى العالم يحمل اليه العدل والخير والهدى والمحبة.. يضفي عليه من نقاء الصحراء.. وعمق الايمان ما يجعله ذلك الجندي الذي لا يتردد أبدا في السير نحو فتح البلاد لهداية العباد ودعوتهم الى الدخول في دين الله أفواجا لا يلتمس من وراء ذلك سوى أن يهدي به الله انسانا أو أن يموت شهيدا تحت راية التوحيد.
ولقد أشربت محبة الاسلام في قلب العربي لتكون له نبراسا نحو الأخذ بأسباب العلم.. والحضارة والمدنية لتمتد آثاره العلمية والحضارية الى جميع آفاق الدنيا من صقلية الى طليطلة.. ومن بخارى الى سمرقند.. ومن القسطنطينية الى أصفهان ليقيم مراكز حضارية لا تزال تشهد بعظمة الاسلام.. وبقدرة العربي على التحرك في كل اتجاه.. والتكيف مع معطيات العلم والحضارة.. وبكرم العربي الذي ـ كان ـ يعطي أكثر مما يأخذ.. والذي ـ كان ـ يحمل المحبة والوفاء والأخوة الى جميع الناس بقدر ما يحمل من الحرص والأنفة والقوة والكرامة. هذا هو العربي الذي تحول الى جانب خصائصه البدوية الى فلاح وصانع وعالم وفيلسوف شهدت بكفاءته أساطين العلم ومؤسسي الحضارة في العالم أمثال: كوبرنيكوس ونيتشة وجوتة ودانتي وسرقيفوس وقسطنطين الاغريقي واسطفان وجيرارد الكريموني وبرنتولاتيني وليوناردو البيزاوي وكارلو الفونسونلينو ولويس ماسينيون وجوند يسالفي وزيغريد هونكة وعشرات غيرهم ممن تعلموا ونقلوا عن الحضارة العربية وترجموا الكتب العربية الى لغاتهم.
هذا هو العربي ابن الصحراء الذي تعلم وعلم وعمل فأرسى قواعد حضارة امتد رواقها الى آفاق الأرض.. وتوارثتها الأجيال جيلا بعد جيل حتى وصلت الينا وستمتد ان شاء الله الى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ذلكم هو العربي الذي اقتحم الصحراء.. سلاحه عصاه.. وذخيرته من العلم فطرته وذكاؤه.. وزاده حبات من تمر وقطرات شحيحة من ماء.. بينما ظلت صحارى العالم المتمدن آلاف السنين مجهولة.. بكرا غير معروف مداها.. لم يستطع أن يدخلها انسان.. ولم يحاول أن يجازف بعبورها بشر الا بعد أن تطورت وسائل البحث والكشف.. وانتشرت التكنولوجيا الحديثة التي نقلت الانسان المتمدن لكشف المجهول من كثير من الأمور. فأين عربي اليوم؟!
انه يقبع في بيته أو في مكتبه بين نسمات المكيف وصور التلفاز ويلتقط ما يسقط اليه من حضارة الغرب.. يسعى جاهدا لاهثا ليتعلم كلمة من كلام الغرب.. ويسعى جاهدا لاهثا لمعرفة سر من أسرار المعرفة الحديثة.. ويسعى جاهدا لاهثا للحصول على بعض التكنولوجيا المتقدمة.. فيعطيه الغرب بحساب ولا يعطيه الا بالثمن الباهظ الذي يدفعه عن طيب خاطر لينعم بالراحة والدعة والرفاهية دون حساب لمستقبل الأيام حيث لا يوجد لديه ذلك الثمن الذي يدفعه.. فإنه لن يجد آنذاك الراحة والدعة والرفاهية التي ينعم بها الآن. هذا هو عربي اليوم الذي لولا تمسكه بعقيدته الاسلامية وكتابه العظيم (القرآن الكريم) لتحول الى مسخ.. ضائع بين أوشال الشعوب.. تدوسه الأقدام وتطحنه المهانة..
هذا هو العربي.. وهذا هو مصيره.. ان لم ينهض ويفتح عينيه على المستقبل ويسخر ساعديه للاستفادة من قدراته الذاتية ويعتمد على ما لديه من ثروات وامكانات خاصة فسوف يأكله الندم.. ولات ساعة مندم.