في الأرض الفلسطينية المحررة لا مكان للذين يريدون شطب الحقوق الوطنية الفلسطينية ولا مكان للذين يوافقون على التفاوض والمساومة على الانتفاضة.
خضعت القيادة الفلسطينية لحملات الضغط الهائلة والمضنية التي تعرضت لها بدون توقف على مدار الفترة الأخيرة، وقامت في النهاية بإعطاء موافقتها على اقرار منصب رئيس الوزراء الذي ظلت أمريكا ومعها إسرائيل أو العكس كذلك تطالبان به علنا وجهرا وسرا وخفاء.
وجاء القرار الذي صدر عن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، المعني الأول بقضية التغيير واستحداث المنصب، ليعبر عن تلك الموافقة الفلسطينية بشكل علني مما لا يترك أي مجال للشك في صحة موافقة الرئيس على بداية عصر فلسطيني جديد.
لكن من الشخص الأكثر حظا لنيل تلك الوظيفة التي تعتبر عمليا أعلى مرجع سياسي في السلطة - لدى الشعب الفلسطيني على الأقل . فالهدف من استحداث ذاك المنصب كان ومازال قص أجنحة الرئيس عرفات وتحديد مهماته ومسئولياته ومن ثم جعلها شكلية ونقل السلطة الفعلية لرئيس الوزراء المنتظر والذي تفضله إسرائيل وأمريكا من الشخصيات المحسوبة عليهما أو التي تهادنهما وتقبل بشروط التسوية ضمن المنطق الشاروني.
هذا الشخص مازال غير معروف تماما مع أن إسرائيل أشاعت أخبارا حول إمكانية تعيين وزير المالية الحالي سلام فياض للمنصب المذكور. كما تقوم الإدارة الأمريكية بممارسة ضغوط على عرفات والسلطة من أجل تعيين فياض فعلا في المنصب، بينما هناك أقوال من داخل أروقة السلطة تقر بأن الأكثر حظا لتولي رئاسة الوزراء هو محمود عباس (أبو مازن) مهندس عملية أوسلو الفاشلة وهو الشخص المفضل من قبل السلطة لاستلام تلك المهمة. وعلى الصعيد نفسه علق أحد وزراء السلطة المعروف بتحمسه لنهج أوسلو وهو زياد أبو زياد فقال انه يفضل شخصيا أبو مازن على سلام فياض، لكنه أكد أن المجلس التشريعي الفلسطيني هو الذي سيحدد من الشخص الذي سيتولى تلك الرئاسة.
وهنا من الطبيعي الإشارة إلى أن حظوظ أبو مازن سوف تكون أوفر لأنه سيحظى بدعم أعضاء حركة فتح وأعضاء آخرين سوف يصوتون له نكاية بالطلب الأمريكي والإسرائيلي الذي يريد فياض في تلك المهمة المعقدة. والغريب في هذا كله عدم ورود إشارات أو علامات أخرى على ترشيح آخرين غير عباس وفياض لهذا المنصب الحساس والهام جدا.
نعتقد أنه لا أبو مازن ولا سلام فياض يستحقان تولي تلك المهمة الكبيرة، لأن الأول أثبت فشله الذريع في عملية أوسلو التي أباحت للاحتلال كل ما كان محرما عليه وحللت له نهب الأرض والتحكم بحياة الشعب عبر اتفاقيات أوسلو وأخواتها وما تبعهن من اتفاقيات سيئة لم تجلب للشعب الفلسطيني سوى الوزراء والقادة الذين تركوه يتخبط وينزف وحده عندما حدثت المواجهة الكبرى. وبما أن أبو مازن يعتبر العقل المدبر لمهزلة سلام أوسلو من الجانب الفلسطيني المتنفذ والمتحكم بمؤسسات شعبنا، فانه من الطبيعي أن يرحل الفاشل ويترك المجال لغيره من القادة وبالأخص من الجيل الشاب الذي تتواجد بينه كفاءات وطنية تستطيع تكملة المشوار الفلسطيني وقيادة السفينة الوطنية نحو بر الأمان، وفي نفس الوقت تؤكد وتعمل على التمسك بالثوابت الوطنية الفلسطينية.
هذا أضعف الايمان، ونحن هنا لا نطالب بمحاكمة المسئولين عن نهج أوسلو وما آلت إليه أمور الفلسطينيين بفضلهم وبفضل فشلهم، وهذه المهمة نتركها للمستقبل الذي سوف يحدد من كان على خطأ ومن كان على صواب من الجانب الفلسطيني.
أما الوزير سلام فياض، والذي لا اعرف شخصيا عنه الكثير، فهو شخصية مستقلة وذات تعليم وتجربة اقتصادية ومالية لكني أعتقد أنه لا يملك التجربة العملية في صفوف المؤسسات والأحزاب والمنظمات الفلسطينية أو حتى ضمن المجلس الوطني أو غيره وهذا ما يعتبر سلاحه القوي والضعيف في آن، لكنه سلاح ذو حدين له وعليه. ثم انه ليس من المعقول ولا من المقبول أن يفرض على شعبنا رئيس وزراء من قبل أعداء شعبنا، لأننا لا نقبل بالإملاءات ونرفض الذين يقبلون بها أو الذين يجارونها طمعا في رضا الوحش الأمريكي أو خوفا منه، ويجب أن لا يفهم من كلامنا أننا نلمح ضد شخص الوزير فياض لكننا نقصد أمريكا وإسرائيل وخيارهما الذي سيكون رفضه طبيعيا من الجانب الفلسطيني بكل تلويناته لأنه بكل بساطة يأتي من معسكر الأعداء.
وهنا تكمن الحنكة الوطنية في التعامل مع الشخصيتين المرشحتين للمنصب ومن يدعمهما. هذا الشعب مازال شعب فلسطين الذي لا يقبل بالإملاءات ولا يرضى بأشباه القيادات وعبيد السلطان والجاه والمال وبالذين أساءوا للقضية الوطنية أو تم جلبهم على دبابة معادية ليتولوا القيادة والسلطة وفرض الاستسلام على المشروع الوطني المعمد بالدماء الذي تقوده الانتفاضة الفلسطينية المجيدة.
في هذه الأرض الفلسطينية المحررة والتي أعاد الاحتلال احتلالها، لا مكان للذين يريدون شطب الحقوق الوطنية الفلسطينية ولا مكان أيضا للذين يوافقون على التفاوض والمساومة على الانتفاضة من أجل العودة لما قبل اندلاع الانتفاضة. لا عودة عن الانتفاضة ولا عودة عن تحقيق شعارات الانتفاضة كاملة، لأن الحرية والاستقلال والسيادة أصبحت مطالب فلسطينية ملحة وغير قابلة للتفاوض مع عدو لا يريد أن يسلمنا ما سلبنا إياه بالقوة أو عبر سلام أوسلو الميت.
الطريق الوحيد لتحقيق أمنيات شعبنا الوطنية الممكنة والمقدسة والمعقولة يكون عبر تصعيد نهج الكفاح الفلسطيني العادل سياسيا وميدانيا وعسكريا ودبلوماسيا وجماهيريا ومن ثم عبر اختيار شخصية وطنية نظيفة وشريفة لمنصب رئيس وزراء، عندها يعرف الشعب الفلسطيني أن هذا الشخص وطني ولا غبار عليه، وطني حقيقي سيكون همه فلسطين وناسها وأهلها وشعبها في الداخل والخارج وكذلك الإصلاح الحقيقي ورفض التدخلات والاملاءات الصهيونية والأمريكية.
إذا ما توافر لشعبنا رئيس وزراء بهذه الصفات يكون شعبنا حقق خطوة هامة نحو تأسيس مفهوم جديد لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني وتشكيل المؤسسات وتوزيع المهام، فيجد الشخص المناسب مكانه المناسب بحيث تكون عملية الخدمة الوطنية عملية سهلة وممتنعة, سهلة لأن الشخص الذي يعمل لن يحسب حساب الخوف من رب عمله الذي يهدده بلقمة عيشه وحياته ومستقبله وكذلك يجب أن تكون الشفافية موجودة وحاضرة بقوة لأنه لا مجال لنجاح التجربة الجديدة بدون وجوه جديدة تؤمن بالعملية الديمقراطية وبالكفاءات والمحاسبة والبذل الوطني الحقيقي من أجل مستقبل فلسطيني مشرق ومشرف وحقيقي، ثم ممتنعة وتمتنع عن الخضوع لاملاءات وضغوطات الآخرين لأنها تعلم أن خلفها شعبا يحميها ويقف بالمرصاد لمن يريد النيل منها.
* كاتب وباحث فلسطيني ـ اوسلو