أخبار متعلقة
تحت نيران الحرب قام بدوره كجندي في الكتيبة المضادة للطائرات بشرم الشيخ. اندفعت الدماء في وجهه ورأسه وواصل البحث عن زميله الصول (طه) حتى وجده قطعة من الجلد المحترق.
في الأسر ذاق أنور الروبي مرارة الهزيمة والانكسار ثم كانت فظاعة العدو الصهيوني الذي قتل من أسرانا الكثير بدون أسباب وهم عزل من السلاح وكانت جريمتهم هي البحث عن نقطة ماء.. النيران اندفعت تحصد أرواحهم لمجرد أنهم أسرى أقاموا الصلاة..شارك في دفن مئات المصريين المقتولين غدراً .. بكى بحرقة ومرارة وهو يلقي عشرات الجثث في البحر تنفيذاً لأوامر القادة الإسرائيليين.. شاهد وسمع أنات وآهات الجنود المرضى على ظهر الباخرة الإسرائيلية أمام ميناء إيلات عندما صدرت الأوامر بإلقاء المرضى أحياء في البحر..كل هذا مازال يذكره لم ولن ينساه لأنه شاهد عيان على تلك المذابح الوحشية .. كان أسيراً وكُتبت له النجاة بوصول ممثلي الصليب الأحمر ولكنه يريد الأداء بشهادته أمام الناس ليعرفوا كيف كان العدو يتعامل مع الأسرى في حرب 1956 ولعلها ستساهم في إجراءات الدعوى بمحاكمة مجرمي الحرب. كم فجعنا الحديث عن دفن الأسرى أحياء في الرمال وأمرهم بحفر قبور لهم ثم إطلاق الرصاص عليهم وتلك الاعترافات وردت عن لسان ضباط إسرائيليين وأكدها بعض ممن شهدوا مذابح الأسرى من الجنود المصريين الفارين. "اليـوم" التقت بالشاهد العيان. لكي يدلي بشهادته حيث رأى وسمع وشارك في دفن مئات من الجنود المصريين الأسرى في حرب 1956 الذين قتلهم الإسرائيليون.
قتـل الأحيـاء
يقول أنور مجاور الروبي 64سنة: ان الإسرائيليين كانوا يقتلون الأسرى المصريين ثم يأمرون زملاءهم بإلقاء الجثث في البحر من فوق ظهر باخرة أقلت الأسرى إلى ميناء إيلات. أنور الروبي تحدث إلينا وانفعالاته دليل قاطع على قسوة التجربة التي عاشها في الحرب وأثناء الأسر حتى عاد إلى أرض الوطن.. من جانبه أكد أنه لم ينس شيئاً مما حدث وأنه طيلة الأربعين عاماً الماضية من فك أسره وهو يتذكر ما حدث أن أحاديث الذكريات مؤلمة تجعل دموعه حاضرة بشدة ودائماً ولكن كيف له أن ينسى حينما شهد الموت وهو يخطف أصدقاءه أمام عينه وأحد عشر شهراً في السجون الإسرائيلية مرت عليه وكأنها الدهر كله في كل لحظة كان يتوقع الموت.
تركونا بلا طعـام
يفجر أنور الروبي مفاجأة وهي كما قال: لم نكن ندفن الموتى بشكل كامل لأن العدد كان رهيباً كنا فقط نضع الرمال فوق الرؤوس ونعود وهذا يفسر أن أغلب المقابر التي وجدت كانت قريبة من سطح الأرض0 وبعد حوالي 10 أيام أخرى اصطحبونا إلى جبل الطور وتركونا بلا طعام ولا ماء وكان بالقرب من هذا الموقع "طلمبة" مياه وهي في موقع وسط بين مكانهم على الجانب البحري وكانت على الجانب القبلي ومارسوا معنا أبشع صور التعذيب فضلا عن حرماننا من الماء وكان ذهاب أي مجموعة إلى موقع (الطلمبة) طلبا للماء معناه فتح النار عشوائيا عليها وقد تكرر هذا المشهد المأساوي أكثر من مرة قتلوا العشرات بهذه الطريقة الوحشية وكانوا يأمروننا بحمل الفتلى لإلقائهم في البحر وتكرر هذا المشهد أيضا مرات عديدة وفي كل مرة كان يسير إلى جوار مجموعتين من الجنود الإسرائيليين ونحن في الوسط نحمل القتلى حتى نصل إلى البحر فنلقيهم هناك ونعود مرة أخرى ثم أحضروا لنا باخرة لنقلنا إلى ميناء إيلات ... صمت أنور الروبي قليلا والدموع تملأ عينيه ثم قال: منهم لله عندما صعدنا إلى ظهر الباخرة وقبل أن نصل إلى ميناء إيلات ظهرت على البعض منا أعراض "دوسنتاريا" بسبب نقص الطعام والماء وصعوبة الظروف التي كنا فيها وهنا صدرت الأوامر الصهيونية بأن كل من تظهر عليه أعراض المرض أو يشعر بآلام في بطنه يتم إلقاؤه في البحر وقبل أن نصل إلى الميناء ظللنا في عرض البحر 5 أيام القوا خلالها مئات الأسرى المصريين وهم أحياء في البحر لتأكلهم الأسماك المتوحشة وأخيرا وصلنا إلى ميناء إيلات وكان معنا عدد من أهالي رفح وغزة حوالي 5501 شخص وأخيرا حضر ممثلو الصليب الأحمر ونقلونا إلى تل أبيب وقاموا بتسجيل أسمائنا من يومها لم يقتل أحد واستمر احتجازنا في تل أبيب 11 شهرا واقاموا لنا معسكراً محاطا بالأسلاك الشائكة وتم تسليمه إلى الصليب الأحمر الدولي.
معسكر الأسر
يواصل أنور الروبي في معسكر الأسر: كان طعامنا عبارة عن رغيف خبز كل 24 ساعة ظللنا 11 شهراً على هذا الحال حتى جاء موعد تسليمنا إلى مصر وقد تولى الصليب الأحمر هذه المهمة وتم تسليمنا في التل الكبير وعند عودتنا إلى مصر أعطونا 55 جنيها مكافأة 11 شهرا في الأسر. ويضيف إنه ما قبل فترة الأسر ومعاملة اليهود للأسرى المصريين أو بعد نفاد الذخيرة التي كانت في حوزتنا وقبل أسرنا كانت الطائرات الإسرائيلية تنادي بالميكروفونات: (أيا أيها الجنود المصريين ارموا أسلحتكم وأنفدوا بأرواحكم. أحنا أخذنا مصر) وكان هذا نموذجاً لحرب نفسية تدار لهدم روحنا المعنوية. ومن الأحداث الذي يذكرها انور الروبي أن كل يوم في معسكر الأسر ومع كل قتيل يسقط منا كان الجنود الإسرائيليون يرقصون مزحاً ونحن نبكي بشدة وكنا نبكي أيضاً ونحن نحمل القتلى إلى البحر لإلقائهم هناك رغما عن أنوفنا.
وفي إحدى المرات كنا نستعد للصلاة وفوجئنا بالإسرائيليين يطلقون علينا النار وهنا تدخل واحد منهم اسمه "فليبس" وهو يهودي مصري عاش في حي السكاكيني وقال لزملائه أن يتركونا نصلي ولكن في النهاية كلهم "أنذال" لأن معاملتهم سيئة. ويكفي أنهم قتلوا منا الآلاف وهم عزل من السلاح ولو كانت معنا أسلحة وذخيرة لأبدناهم جميعا.
حكاية الصول "طه"
أما اكثر القصص التي تبعث في عقل وقلب انور الروبي الأحزان فهي حكاية الصول طه عبد الحميد شاهين الذي كان مصاحبا له في سيارة لإحضار ذخيرة من المخزن وكان الصول طه يتسلم الذخيرة ويقول انني كنت أقود السيارة وعند شرم الشيخ ألقى الإسرائيليون علينا قنبلة ووجدت الصول طه يقفز من السيارة وقد أسرعت أنا الى أعلى الجبل ورأيت قنبلة تسقط فوق رأسه وعندما هدأ الضرب عدت إلى مكانه فوجدت حفرة عميقة ولم أجد أثرا للصول طه سوى قطعة من الجلد المحترق.
وعند عودتنا من الأسر حضرت أسرته لتسأل عمن كان في شرم الشيخ لتعرف أي أخبار عنه وفي البداية اشفقت عليهم معرفة الحقيقة فأنكرت معرفتي به ولكنني بعد لحظات ايقنت أن علمهم بالحقيقة أفضل من حالة البحث المتواصل عنه وفي النهاية لن يصلوا لشيء لأنه لم يره أحد وهو يموت سواي فأخبرتهم بالحقيقة وكانت الصدمة قوية عليهم ومازالت اذكر قريبه الذي تلقى خبر استشهاده مني واحتار كيف يخبر النساء اللاتي حضرن معه بحقيقة الامر ولكنه على الاقل سوف يتوقف عن البحث واخيراً اكد انور الروبي انه رغم مرور السنوات على حرب 1956 الا انه لا يزال يذكر احداثها وكلما شاهد عرض فيلم عن الحروب في التليفزيون لا يستطيع ان يحبس دموعه فعلى الرغم من نسيان اسماء كثيرة ممن كانوا معه في الحرب الا انه يذكر العلامات التي كانت ترتسم على وجوههم خاصة الذين قتلوا غدراً.
بقايا اسرى مصريين دفنوا احياء