من الطبيعي ان نرى تلك العلاقة المهمة والمثيرة بين العمل الهندسي والعمراني وبين مواصفات البناء فهي تمثل العلاقة بين الخاص والعام وما نريده كأطراف متعددة وما يريده المجموع كوحدة واحدة, ولكن تبقى القضية الأهم هي وجود هذه المواصفات بالشكل الذي يستجيب لحاجات الحاضر وإمكانات المستقبل.
ففي البداية يجب ان ندرك وان نعي تماما أهمية المواصفات بصورة عامة. فالعالم بدوله وأممه وفي ظل ما تفرضه العولمة من انفتاح في الأسواق وتبادل السلع بين الدول, بات يدرك ان المواصفات التي ترتضيها كل دولة لنفسها هي التي ستضع الحدود في وجه الانفتاح وهذه الحركة التي تبدو كأنها بلا عوائق. ولنا ان نتصور الحال في غياب وجود هذه المواصفات فالمنظمات العالمية والأممية لن تسمح لهذه الدولة المعينة بان تضع أي شيء يشكل قيدا يعيق حرية حركة التجارة وبالتالي ستجد هذه الدولة نفسها عاجزة عن حماية مجتمعها اقتصاديا واجتماعيا وحتى سياسيا.
واذا كانت المواصفات بوجه عام تعطي المبرر المشروع للدولة للحد من الحرية المزعومة لحركة التجارة وبذلك تعطي فرصة لمنتجاتها الوطنية في السوق المحلي فان وجود المواصفات يعني المحافظة على المستوى المطلوب للحياة في ذلك البلد لان وجودها يحمي المستهلك من استخدام مواد ومنتجات أقل جودة او ان استخدامها قد يعرض الإنسان والبيئة لأضرار اقتصادية وصحية. وفي هذا الإطار العام تأتي أهمية مواصفات البناء. وكما نعرف ان قطاع العمران هو القطاع الأكثر أهمية لعلاقته المباشرة بتوفير البيئة المناسبة لحياة الإنسان والى جانب هذه الأهمية يأتي الدور المحوري الذي يختص به هذا القطاع في المحافظة على الموارد الطبيعة ومصادر الطاقة. فالقطاع العمراني مسؤول عن استهلاك ما يقارب 40% من المواد الأولية, وتقترب حصته من استهلاك الطاقة الى حدود النصف من مجمل الاستهلاك المحلي, وهذا القطاع عليه مسؤولية كبيرة فيما ينتج من مخلفات وانبعاثات ضارة بيئيا وصحيا. واذا كان قطاع العمران مسؤولا عن كل هذا الاستهلاك وهذا التلوث, وعندما يلامس الموضوع صحة وسلامة الإنسان فليس من المبالغة ان ننظر لمواصفات البناء بهذه الأهمية, بل يجب ان نعتبره مشروعا وطنيا له بعد اقتصادي مهم وعلينا ان نمده بما يستحق من دعم مادي وبشري. ومن أجل ايضاح ما نعنيه من أهمية ودور حيوي لهذا المشروع الوطني, ففيما يلي مناقشة موجزة للمحاور التي تعطي لهذا المشروع البعد الوطني ومرتبة الضرورة الاقتصادية:
1ـ ان وجود المواصفات يعني وجود مرجعية علمية يرجع اليها أهل الاختصاص في عملهم وبذلك تقلل المساحة المعطاة للاجتهاد الشخصي وما يتبع ذلك من اختلافات وتباينات. ففي ميدان العمل العمراني يحتاج المهندس والمعماري للمواصفات من أجل تحديد المكونات الفنية التفصيلية للمشروع, وفي حالة غياب هذه المواصفات يضطر عندها المصمم اما الى العودة الى مواصفات دول اخرى او ترك البعض من هذه التفصيلات لاختيارات المستفيد, وفي كلتا الحالتين ينتج الكثير من الغموض والهدر للموارد والمصادر المتاحة للمشروع. وفي حالة عدم أخذ المصمم الاعتبار للمواصفات, فان هذا المصمم سيأخذ جانب الحيطة في تصميمه اذا لم يهمل الأمر والاحتياط في غير محله قد يكون مكلفا جدا للفرد والمجتمع معا وهذا ما نجده في مشاريعنا العمرانية. اما في حالة الرجوع الى مواصفات تختص ببلدان أخرى, فما يصلح لتلك البلدان لا يعني بالضرورة صلاحه لبيئتنا وظروفنا المناخية. اما في الحالة الأصعب وهي ترك صاحب المشروع ليختار ما يريد وما يشتهي كما هو الحال في بناء البيوت والكثير من المباني فهذا يعني فتح المجال للعشوائية في الاختيار وبالتالي نجد أنفسنا ملزمين بالانشغال في معالجة الكثير من المشاكل والنتائج السلبية.
2ـ لم يعد مقبولا بيئيا ولا اقتصاديا ان نستمر في بناء مبان تفتقر للجودة في تشييدها والكفاءة في تشغيلها, ولعل المدخل لتغير هذا الوضع هو وجود مواصفات بناء محلية ثم العمل بجد على تطبيقها والأخذ بها في كل مراحل المشروع. ان أي خلل في المواصفات ينتج بناء غير جيد والبناء غير الجيد يكون في العادة مكلفا في بنائه وتشغيله وصيانته, وفي النهاية قد نضطر لإزالة هذا المبنى غير الجيد اما لعلو كلفة بقائه او لعدم صلاحيته وفي كلتا الحالتين ننتهي بهدر لمواردنا الطبيعية وغير الطبيعية والتي هي في الغالب محدودة عندنا, بالاضافة الى ان المباني غير الجيدة وكما أشار الى ذلك الكثير من الدراسات انها غير مريحة لساكنيها وبالتالي تفتقد العنصر الأهم عمرانيا ألا وهو راحة المستفيد. ولو أخذنا المنتج العمراني الأهم وهو البيت او المسكن, وفكل شيء يؤثر في جودة البيت عمرانيا من وجود مواد بناء رديئة الى اختيار أنظمة غير جيدة, هي كلها في النهاية تؤثر على جودة البيئة العمرانية وبالتالي تأثر ساكنيها. 3ـ هناك مواد بناء كثيرة جدا ويدخل في صناعتها آلاف من المواد الكيميائية التي وجودها يسبب انبعاثات غازية ضارة صحيا ومن يحمينا من هذه الأضرار ان لم تكن هناك مواصفات ملزمة تسمح للمواد التي ثبت محدودية ضررها ولا مكان لغيرها وان قل ثمنها وسهل استعمالها. واذا بقينا بلا مواصفات فسنجد أنفسنا سوقا او بالأحرى مكبا لكل ما يصنع في العالم وعندها لا ندري هل نسكن في بيوت ام في مصانع تمتلىء بأنواع الغازات الضارة.
4ـ ان وجود مواصفات بناء محلية يعتبر حافزا لبناء قاعدة صناعية قوية ومنظمة لمواد بناء ولها القدرة على إثبات وجودها محليا والمنافسة إقليميا وعالميا.
ولا يمكن ان نؤسس بيئة مناسبة لبناء هذه الصناعة ونحن بلا أسوار تحمي أسواقنا المحلية من المنتجات التي تنافس المنتجات المحلية سعريا ما دام ليست هناك معايير ومواصفات تأخذ بها وتلتزم بمتطلباتها. وفي ظل العولمة التي نشهد كل يوم اتساعا لدائرة حضورها وتواجدها فعليا في حياتنا, وستبقى صناعتنا المحلية في وضع غير تنافسي غير عادل لانها ان أرادت الجودة في منتجاتها فهي غير قادرة على التنافس سعريا وبالتالي تخسر السوق المحلية وان أرادت ان تجاري ما هو موجود في الأسواق فهذا يعني المزيد من الخيارات غير الجيدة وهدر استثماراتنا المستقبلية.
5ـ ان وجود مواصفات بناء وبالأخص في إطار المواد تجعل أسواقنا مفتوحة فقط للمواد المطابقة لهذه المواصفات وبالتالي لا نرى أسواقنا كما هو الحال الآن مزدحمة بهذا العدد الكبير من المنتجات مما يجعل من الصعب على المهندس والمستفيد معرفة وتحديد الأنسب والأفضل لاستخدامه في المشروع. فاذا كات هذه الكثرة التي لا تختزن في الغالب تميزا في النوع والجودة هي ظاهرة مضرة عمليا فهي كذلك لها نتائج اقتصادية سلبية لأن في ذلك جهودا مبعثرة مع هوامش ربحية لا تساعد عملية تطوير شركات متخصصة تساعد في تنظيم السوق المحلي.
واذا كانت هذه المحاور تختصر النقاش عن أهمية المواصفات مهنيا واقتصاديا, ولكن الحقيقة ان اهتمامنا بموضوع المواصفات يعكس درجة وعينا وإدراكنا بذلك الترابط الموجود بين المواصفات ودرجة الرقي التي نريدها لبلدنا ومجتمعنا. فبالوعي المطلوب والإدراك المستوعب لأهمية الموضوع نستطيع ان نجعل من الموضوع محورا رئيسيا في خططنا التنموية وبالتالي نرصد له الموارد البشرية والمادية المطلوبة والتي ما زلنا مترددين في توجيه ما يلزم منها. وعندما نجعل العمل لاعداد هذه المواصفات بمثابة مشروع وطني فعندها سنتلمس الكثير من الايجابيات وهي قبل كل شيء خطوة تنظيمية للنشاط العمراني في المملكة وهذا هو المهم والمطلوب في وقتنا الحاضر.