إذا كانت عصبة الأمم قد فشلت في تحقيق مفهوم الأمن الجماعي في الثلاثينات لانعدام الإرادة السياسية الواحدة لدى المجتمع الدولي آنذاك وعدم وجود آلية فعالة للتنفيذ وعدم توافر العالمية في العصبة فإن الأمم المتحدة تتعرض حاليا للمأزق نفسه وإن اختلفت الأسباب. فالمنظمة الدولية تتوافر لها على عكس عصبة الأمم - صفة العالمية ولديها من آليات التنفيذ الكثير، وأرست دعائم الأمن الجماعي طوال سنوات الحرب الباردة وحتى سنوات التسعينات على تباشير النظام العالمي الجديد الذي سرعان ما انهار مع تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 والتي جعلت الولايات المتحدة تعمل على تغييب الأمن الأمريكي على الأمن الجماعي الدولي دون تبرير منطقي يتقبله الرأي العام العالمي أو حتى يفطم الدول الغربية الحليفة.
عبر الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عن هذا التوجه عندما صرح أخيرا بأن بلاده لا تحتاج الى موافقة الآخرين عندما تتعلق المسألة بالأمن وحماية الشعب الأمريكي.
وأضاف انه سيتحرك باسم السلام والأمن الدوليين لحماية الشعب الأمريكي وأمنه المهدد بشكل مباشر من جانب العراق، مطالبا مجلس الأمن بالتصويت على القرار الأمريكي - البريطاني - الأسباني بغض النظر عن نتيجة هذا التصويت قائلا ان هذا التصويت سيكشف أوراق أعضاء مجلس الأمن وموقفهم من الأزمة العراقية.
وليس أدل علي التبرير الأمريكي - غير المنطقي - لشن الحرب ضد العراق من تصريحات الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بأن الأمن القومي الأمريكي ليس مهددا الآن بطريقة مباشرة الى جانب وجود عدة بدائل واضحة للحرب وهو ما ينفي حتمية هذه الحرب واعتبارها الملاذ الأخير. وأضاف قائلا:ان الإدارة الأمريكية مستعدة للمضي قدما في عمل عسكري ودبلوماسي غير مسبوق في تاريخ الأمم المتحدة.
هكذا شهد شاهد من أهلها ولم يقر جيمي كارتر الذرائع التي أعلنها جورج دبليو بوش بشأن تقديم أو تغييب مسألة الأمن الأمريكي على الأمن الجماعي الدولي . وهي المسألة التي يمكن ان تقود الأمم المتحدة الى التفكك والانهيار شأنها شأن عصبة الأمم من قبل. وفي مواجهة هذا الموقف الأمريكي المتعنت اقترحت فرنسا الدعوة الى اجتماع الأمم المتحدة على مستوى رؤساء الدول والحكومات للتصويت على قرار مجلس الأمن بشأن اتاحة استخدام القوة من عدمه ضد العراق. والاقتراح الفرنسي جدير بالمناقشة لأنه يعيد الى الذاكرة قمتين دوليتين للأمم المتحدة أولاهما على مستوى قمة مجلس الأمن (31 من يناير 1992) والأخرى على مستوى الجمعية العامة عشية بدء الألفية الثالثة (6 - 8 سبتمبر 2000).
ولعل استدعاء ما أسفرت عنه القمتان يعيد الى الولايات المتحدة رشدها السياسي التي تميزت به عبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ جورج واشنطن ويؤكد هذا الرئيس الأسبق جيمي كارتر قائلا: إن الحرب التي تستعد إدارة بوش لشنها ضد العراق تخالف المبادئ التي قامت عليها السياسة الخارجية الأمريكية منذ تبلورها قبل قرنين والتي تقوم على مبادئ دينية وبناء تحالفات تؤدي الى اتخاذ قرارات حكيمة وضبط النفس.
وكان بيان قمة مجلس الأمن الصادر في 13 من يناير 1992 قد ركز على أهمية الأمن الجماعي الدولي في أربع نقاط أساسية هي:
أولا - أهمية الالتزام بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وحل جميع المنازعات بين الدول سلميا وفقا لأحكام الميثاق مع التأكيد على أهمية الالتزام بنظام الأمن الجماعي للميثاق لمعالجة الأخطار التي تهدد السلام العالمي وإزالة آثار الأعمال العدوانية.
ثانيا - انتهاج الدبلوماسية الوقائية منهجا جديدا لحفظ السلام وصيانته مما يزيد كفاءة قوة الأمم المتحدة في إطار أحكام الميثاق وتكليف الأمين العام للأمم المتحدة بمتابعة توصياته في هذا الشأن.
ثالثا - اتخاذ خطوات محددة لتعزيز فعالية الأمم المتحدة في ميادين نزع السلاح والتزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالوفاء بالتزاماتها المتعلقة بتحديد الأسلحة ونزع السلاح ومنع الانتشار لمكافحة أسلحة التدمير الشامل ومنع انتشار التكنولوجيا المتعلقة ببحوث هذه الأسلحة وإنتاجها والتمسك بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وتنفيذها وسرعة التوصل الى اتفاق بشأن حظر الأسلحة الكيميائية.
رابعا - دعم وتطوير الدور الذي تقوم به الأمم المتحدة بموجب الميثاق لتسوية المنازعات الإقليمية التي طال أمدها في إطار مهام الأمم المتحدة لصيانة السلام.
واستجابة لبيان قمة بمجلس الأمن قدم د. بطرس غالي الأمين العام للمنظمة الدولية السابق برنامجا متكاملا من المقترحات لإجراء تغييرات واسعة النطاق في دور الأمم المتحدة لتعزيز دورها في إقامة حفظ السلام والأمن الدوليين وأوصى بزيادة استخدام تدابير الثقة بين أفراد المنازعة المحتملة أو الحالية أو السابقة أو في إطار المنظمات الإقليمية ودعا د. بطرس غالي الى تقصي الحقائق فضلا عن إنشاء نظام للإنذار المبكر لرصد التهديدات المتوقعة للسلام العالمي وتحرك قوات الأمم المتحدة بناء على طلب الأطراف لمنع العدوان عبر الحدود أو لمنع أعمال القتال داخل بلد ما. وفي الحالات التي تخشى فيها إحدى الدول من وقوع عدوان عبر حدودها فإن وجود الأمم المتحدة على أحد جانبي الحدود بموافقة البلد الطالب للقوات سيؤدي الى ردع النزاع.
ويبدو واضحا أن مقترحات د. غالي لم تلق وقتها أو فيما بعد استحسان الإدارة الأمريكية سواء في عهد إدارة الديمقراطية أو الجمهوريين حيث انشغلت واشنطن ولا تزال بتعميد نفسها قطبا أوحدا دون منافسة من جانب منظمة دولية تمتلك صناعة القرار الدولي أو مجموعة قوى دولية تشاركها اتخاذ القرار بشأن العلاقات الدولية.
وتمر السنوات وتأتي احتفالية الأمم المتحدة بقدوم الألفية الثالثة وتنعقد الجمعية العامة على مستوى القمة فيما بين 8 و6 من سبتمبر 2000 وتسفر عن عدة مبادئ ومقترحات وتوصيات في بداية الألفية حول تفعيل دور المنظمة الدولية وفعاليته في حفظ السلام والأمن الدوليين.
ومن أبرز المطالب التي أجمع عليها رؤساء الدول بشأن اللاأمن الجماعي الدولي في قمة الألفية نذكر مطالب فرض السلام والأمن الدوليين ويعني أن تصبح المنظمة الدولية هي الممثلة للشرعية الدولية والتي تتمتع بقرارات لها صفة الإلزام دون الاعتداء بحق الفيتو أو مصالح القوى الكبرى.
وتشاء الأقدار أن تتناسى الإدارة الأمريكية هذا المطلب الدولي بعد مرور 12 شهرا فقط على اقراره في قمة الألفية سبتمبر 2000 بوقوع أحداث 11 من سبتمبر2001 وتصدي واشنطن لإقرار الأمن الدولي بمعرفتها هي دون غيرها من الدول الكبرى والمتوسطة التي ترى أهمية وضرورة احتواء أزمة الأمن الجماعي الدولي الراهنة سلميا.
ولعل ما يجري داخل مجلس الأمن حاليا وتصاعد دقات طبول الحرب دون قرار دولي حاسم، ما يؤكد أهمية انعقاد قمة دولية ثالثة سواء على مستوى مجلس الأمن أو الجمعية العامة لتدارك وصول النظام الدولي برمته الى حافة الهاوية.
جريدة عمان