الصداقة صدق.. والصدق مصداقية.. والمصداقية ممارسة أخلاقية على مستوى التعامل بين الناس.. حين تنتفي من سلوكياتهم تتحول الى اعاقة دونها اعاقة الجسد.. ودونها ضمور العضلات والمفاصل..
ولأن الصداقة جسر تواصل يؤلف بين شيئين واكثر. مخلفا فوقه وتحته كل عوامل القطاعية. والكراهية. والشحناء. والأنانية.. مخترقا بتواصله ووصله مثبطات النفس.. ومحبطات الحس.. لأن هذا الجسر العابر فوق محيط الحركة والسعي هو ذلك الذي يشعرنا بالتواجد.. والتكافل.. والتكامل بات علينا ان نختاره دون سواه ممرا.. ومقرا. ومقررا لنوع حركتنا وعلاقتنا دون أن تؤثر فيه انفعالاتنا.. او افتعالاتنا التي تراودنا بين الحين والحين مشحونة بنزعة الرغبة الذاتية.. ونزغة الميول النرجسية التي تحاول افساد اجمل ما اعطاه لنا الله.. ألا وهو التوحد.. والتواجد في نقطة التلاقي الأخلاقي الرافض لإغراءات القطيعة المصلحية الأحادية المنطلق..
الصداقة.. أين هي اليوم.؟ ما مكانها؟ ما حجم تواجدها؟ والى أين تتجه؟!
أسئلة مطروحة متشابكة متشاركة في مصيرها وفي مسيرها تبحث عن جواب.. هل مازالت لدينا صداقة؟ أم أنها رحلت الى البعيد بعد ان ضاقت بالقريب.. وضاق بها.. ضاقا معا بالآخر وهو ما عناه الشاعر العربي في ابياته:
فلو مشيت بكل الأرض قاطبة..
وسرت في الارض أوساطا وأطرافا
لما وجدت صديقا صادقا أبدا.
ولا أخا يبذل الانصاف إن صافى
يبدو أن شحنة تشاؤمية شاعرنا كانت أكبر من بائسة.. كانت يائسة الى درجة القنوط.. وتحطيم الأشرعة والقوارب.. لندع الشاعر يجتر يأسه وقنوطه عبر محيطه المتلاطم المليء بالشكوى والتشاؤم محاولين اختراق الصدمة الشعرية بحثا عن الصدمة الشعورية التي نحس بها كبشر يتعامل مع واقعه من خلال تجربة حياتية لا هي بالمفرحة. ولا هي بالبالية.. لعلها الشاكية من تآكل روح الصداقة والصدق في زمن تحولت فيه معايير علاقة الصداقة الى ما يشبه الارجوحة التي لا تستقر على حال لأنها عرضة للتجاذب بين خشية على اندثارها.. وبين رغبة غير عاقلة تعجل بانهيارها.. بين ايجابية بدأت تتقلص دوائرها.. وأخرى سلبية تتوسع بدفع أنانيتها بدأ التحول المفاجىء في رسم صورة جديدة للصداقات والعلاقات تشكلها الرغبة العمياء من جانب.. والرهبة الأكثر عمى من جانب آخر..
صداقة موقوتة الزمن.. مشروطة الثمن.. ينتفي الثمن فينتهي الزمن.. وتنتحر الصداقة المزيفة.. صداقة! فيها كل شيء إلا الصدق.. وعلاقة فيها كل شيء الا المصداقية..
ربما لأن الأخلاق جيرتها المادة و اجبرتها على ان تسلك طريقا معوجا يملك الإغراء.. ويمتلك الخدعة. والجذب.. ربما لأن الحس الانساني انزوى امام عاصفة التغيير المادي.. واختار ان يقبع مكانه وحيدا في انتظار من يسأل عنه.. ويتحسس أوجاعه.. إن وجد..!
نعم.. الشاعر يائس.. ونحن بائسون لم نيأس بعد لأنه يوجد من بين ظهرانينا بقية من بقية تؤمن بأن درهم الصداقة أغلى وأثمن من دينار العلاقة المصلحية.. وهذا في حد ذاته بارقة أمل في أن نستعيد ولو على جرعات مكانة ما نحلم به لأنفسنا ولغيرنا.. أن نكون صادقين لا يعرف كل من النفاق.. ولا الخداع.. ولا الانتهازية، ولا الانهزامية. ولا الأنانية سبيله الينا.. لعل. وعسى.