الجمعة .اليوم الثاني بعد إعلان احباط العملية الإرهابية في الرياض. لم اقرأ جريدة واحدة حتى لحظة بدئي في الكتابة. لكن اتوقع ان جرائد اليوم والغد وما بعد الغد وكذلك الوسائل الإعلامية الأخرى ان تفيض بأحاديث وحوارات ومقالات واستطلاعات متشابهة بطريقة استنساخية تتمحور حول (التطرف) والارهاب. وسوف نقرأ شجوبات واستنكارات كثيرة, وتصريحات تبرؤ من المتورطين في تخطيط العملية التي تم احباطها. وسوف يلجأ البعض عند شرح أسباب الظاهرة في أبلغ وأوضح تجلياتها وهو حمل السلاح الى ترديد العبارة القديمة التي ألفناها: (انهم شباب مغرر بهم. او انهم تعرضوا لعملية غسل أدمغة).
ان الاستحضار المتكرر لنظرية (التغرير) هذه دليل على اننا لا نزال تحت تأثير الأسطورة التي خلقناها عن مجتمعنا, أسطورة المجتمع المثالي المسكون ببشر مثاليين استثنائيين مختلفين كل الاختلاف عن سائر البشر, وقريبين من الملائكة او هم ملائكة من نوع بشري, يعيشون في ظروف استثنائية مثالية أيضا يتعذر ان تظهر وتنتشر فيها السلوكيات البشرية السلبية مثل الجريمة والعنف والتطرف الموغل في التطرف. وان حدث أي منها فهذا بسبب تأثير خارجي, وان مرتكبيه مغرر بهم.
إضافة الى انتصابها ساترا سميكا بيننا وبين الواقع على حقيقته وما يتواجد فيه من أسباب وعوامل تحفز على التطرف/ الإرهاب والجريمة وغيرهما, فان نظرية (التغرير) تظهر الإنسان في هذا الوطن في صورة الساذج والغبي والإمعة, المجرد من الإرادة والقدرة على التفكير واختيار ما يراه ملائما له ومعبرا عن ذاته ومحققا لتطلعاته وطموحاته الفردية مهما تكن تلك التطلعات والطموحات. وفقا للنظرية انه صيد سهل لكل مستغل متآمر ومن يريد به وبوطنه شرا. ان إبرازه بهذه الصورة يعني تبرئته وإعفاءه من تحمل المسؤولية تجاه ما يقترفه من انحرافات أخلاقية وغير أخلاقية, وكذلك تبرئة المجتمع ذاته من تحمل مسؤولية تجاه تجاهله لكل ما من شأنه التحفيز والدفع في اتجاه الانحراف. اننا نستحضر نظرية (التغرير) لنتنصل من المسؤولية ونضع رؤوسنا على الوسائد ونغط في نوم عميق لذيذ الى ان نفيق على دوي مشكلة مشابهة, فنردد بتثاؤب (انهم شباب مغرر بهم.. إلخ).
نتيجة لتبرئة الذات الفردية مقترفة الجرم والذات الجمعية مقترفة إثم التنصل من مسؤوليتها يقع الاتهام على الآخر المغرر (بكسر الراء الأولى)غسال الأدمغة, المتربص دائما بشباب هذا الوطن ليأخذهم الى الجادة المؤدية الى الجريمة والانحراف. لكن من هو هذا المغرر؟ لا يمكن التعرف عليه او العثور على أثر له.لأنه لا يوجد في عالم الحقيقة. انه إنسان او مخلوق خرج من رؤوسنا كلما ظهرت أثينا /مينيرفا من رأس جوبيتر. اوجدنا هذا الآخر المغرر/ غسال الأدمغة لأن وجوده ضروري لاستمرار وطننا بصورته المثالية واستمرارنا بصورة البشر الاستثنائيين المثاليين, وكذلك ليكون كبش فداء, فهذا الآخر الوهمي هو المسؤول عما يقترف في واقعنا من آثام وخطايا اجتماعية.
اتوقع قلة الكتابات التي سوف تأخذ منحى ومنظورا مختلفين في تناول موضوع التطرف بعيدا عن الاستنكار والشجب, اذ تتجه الى الواقع لتأمله وتفحصه وتسليط الضوء على العوامل والظروف في الداخل التي تؤدي الى ظهور التطرف بشتى أنواعه وتغذيه لينمو وينتشر. التطرف ليس نبتة شيطانية كما يحلو لنا ان نصوره. انه يمارس بين ظهرانينا بأشكال مختلفة, وإلا ما معنى وجود ظاهرة التكفير سواء استهدفت أفرادا او جماعات وطوائف. التطرف لا يأتي دينيا فقط, انه يأتي فكريا واجتماعيا وقبليا. لنتبصر حولنا ماذا نرى؟