.. ليس حرصا على تلك المباهج الصغيرة وليس اصرارا على التمسك بطوق النجاة خوفا من الغرق بهذا اليم ولكنه الجفاف المشين والقاتل.. انني اضحك لكي ابتل وانجو من هذا الجذب.. اضحك لكي اخضر وازهر واورق واصعد من وسط اللهب ـ لست معتوها ولكني اغالب ما تيسر من همومي واحزاني واهضم قليلا تلك الحجارة المترسبة في دمي.. انني اسيل من الشريان الاكبر كي اعيش واتخفف من ذلك التورم حتى لا اطق ـ واركض في الاتجاهات الاربع لاجد منفذا للخلاص (هذا كل ما في الامر)!!
.. لقد ادركت منذ البدء ان من يفيض وينزف من دمه وفمه يتخلص مما تزاحم واكتظاظ ما في صدره من العذاب والالم والتعب ـ الضحك هو نوع من التصالح مع الحزن الاكبر او هو نوع من القفز فوق الحواجز المتقدة وقد يكون نوعا من التواصل بينك وبين الفرح الموقوت في هذه الدنيا المليئة بالمنغصات والعذاب.. اليوم حاولت ان اضحك فلم استطع وحاولت ان ابكي فلم استطع وحاولت ان افكر قليلا فبرزت امامي العديد من الصور المؤلمة والقاتلة.
الصورة الاولى.. يثير فضولي حب الفقراء كيف يولد هذا الحب وكيف يعيش وكيف يصمد في زمن يسود فيه ويجول الدولار؟
.. اعرف ان الفقراء يحبون ويتزوجون وينجبون ايضا اطفالا وهم لا يتوقفون عن الزواج والانجاب بدون مساعدة البنك الدولي او اذلاله او املاء شروطه ولكن هذا الحب الفقير قد يصاب في مراحل خاصة بحالة من الطمث والنزيف الذي يقتله ولا تتوقف عملية قتل الحب هذا الا بتوفر القليل من الفلوس والكثير من القناعة والرضا.
وقد تملكني العجب والدهشة لرؤية زوجين من (اوغاديون) في الحبشة ومعهم اطفالهم الاربعة وهم يتعانقون ويتكومون في التحام حميم مع ابنائهم في انتظار الموت بعد ان حصدهم الجوع والمرض وعدم اهتمام العالم بامرهم. كان الحب الفقير والجائع اكثر وابلغ من كل الكلمات ـ لم يقل شيئا ولم تقل هي شيئا ولكن تلك العظام المسلولة في صحراء اوغاديون الجافة قالت كل شيء وليس لديهما ثمة خيار سوى الموت معا، لم يركضا خلف اكياس الدقيق الهابطة من السماء لان اقدامهما لاتقوى على الركض خلف مؤن الاغاثة القليلة التي تقذف بها الطائرات من اعلى لقد آثرا ان يبقيا معا ومعهما ثالث آخر اسمه الحب الذي لا يفنى الا بفناء الانسان مشهد مؤثر للغاية شاهدته عبر شاشة التليفزيون علمني ان الحب الفقير يمكن ان يعيش حتى ولو في صحراء اوغاديون صورة الغت كل الصور من ذهني فكيف اضحك.