ينتابني شعور بالإثم حين استطرد في السياحة خارج المكان والزمان، متوقفاً هذه المرة في أذربيجان، بينما مكاننا وزماننا غارقين في الدم الفلسطيني، حتى تبدو مثل هذه "الإطلالة" في الظرف الراهن من قبيل الترف الذي لا نملكه، ويحرم على مثلي أن يقدم عليه. لذلك تراودني الرغبة في تقديم اعتذار عما ذهبت إليه في هذا الصدد، وان كنت أتمنى ألا أكون قد ذهبت بعيداً، اكثر مما ينبغي، كما أتمنى أن تجد في حصاد الرحلة بعضاً من الخبرات والدروس المفيدة، التي أرجو أن تشفع لي ذلك الغياب المؤقت، في الدنيا والآخرة.
(1)
لست غريباً على أذربيجان، فقد زرتها خمس مرات قبل انهيار الاتحاد السوفيتي وبعده، لكنني استشعرت بعض الغربة هذه المرة، في اللحظة التي وقفت فيها امام ضابط الجوازات في المطار، الذي ما أن أدرك أنني عربي حتى بدت على وجهه علامات التركيز والحذر، وراح يفتش في قائمة طويلة من الأسماء استخرجها من ملف جانبي، (عرفت لاحقاً أنها تتضمن 3 آلاف اسم)، لكي يتأكد مما اذا كنت واحداً من "المطلوبين" أم لا. ذلك أن أذربيجان، ومنطقة القوقاز بشكل عام، هي البوابة الرئيسية لمنطقة آسيا الوسطى، الموصل إلى أفغانستان، وما أدراك ما هي. ثم ان أذربيجان تعد إحدى بوابات بلاد الشيشان. من ثم فان قدوم عربي إلى باكو خصوصاً بعد 11 سبتمبر. اصبح أمراً يستوقف كل المعنيين بالأمن، ويستحق التحقيق والتدقيق. وقد أصبحت القاعدة بعد 11 سبتمبر أن يرحل العرب من أذربيجان إلى أقطارهم في احسن الفروض، او إلى "جوانتانامو" في أسوئها. أما أن يحدث العكس فذلك لم يعد مألوفاً، وما صار بلفت الانتباه ويثير التساؤل.
بعدما أن اطمأن الضابط المختص إلى براءتي، وجدت نفسي في الشارع، بينما الساعة الثالثة والنصف صباحاً. وأدهشني أن أجد سيدة مسنة متسولة تمد يدها إلى القادمين في ذلك التوقيت الغريب. إذ لم أتوقع أن تقطع سيدة في عمرها الذي تجاوز الستين المسافة من المدينة إلى المطار في تلك الساعة، لكي تستجديهم أن يعطوها شيئاً. وضاعف من دهشتي أن ذلك يحدث في بلد نفطي يتنافس عليه أصحاب المصالح في الدول الكبرى، بل هو أول بلد اكتشف فيه النفط بمنطقة الشرق الأوسط (تم ذلك عام 1848م)، وهو البلد الغني الذي عرف في الأزمنة القديمة بأنه "ارض النيران"، لكثرة منابع الغاز الطبيعي والنفط فيه.
لم يكن الموقف في ذلك الوقت يسمح بتأمل النموذج، لكني أدركت بعد ذلك انه يجسد محنة اكثر شعوب وأقطار العالم الثالث، التي تعرضت للنهب في ظل الاستعمار (في المرحلة السوفيتية كانت أذربيجان تحصل على 1% فقط من عائد نفطها، والباقي كان يذهب إلى موسكو) - وبعد زوال الاحتلال وتسليم السلطة إلى النخبة" الوطنية. فإن النهب استمر لصالح فريق جديد وأصبحت تلك النخبة تستأثر بالثروة فضلا عن السلطة.
(2)
ان الفقراء ازدادوا فقراً بينما الأغنياء اصبحوا اكثر ثراء، بطريقة فاحشة للغاية. وهو ما لاحظته هذه المرة بوضوح على شكل مدينة باكو، التي بدت تظهر في قلبها قصور الأثرياء الجدد، معلنة عن نفسها بتصميمات فجة وخالية من الذوق، تعبر عن رغبة متوحشة في إشهار التميز والاستمتاع بلذائذ الحياة ومغرياتها، وهذه القصور تحولت إلى علامات استفهام وتعجب كبرى، حيث انتصبت وسط الأبنية العتيقة والبائسة التي شيدت لتخزين البشر في المرحلة السوفيتية. وبدت باكو بها اقرب إلى شخص شاحب الوجه وممزق الثياب وحافي القدمين، لكنه رصع أصابعه بعدة خواتم من الألماس!
هذا الفساد الاقتصادي يمثل الوجه الآخر للفساد السياسي، الذي يعد احتكار السلطة مصدراً أساسياً له، رغم أن أذربيجان من هذه الناحية تعد افضل من دول أخرى في آسيا الوسطى. اتسم فيها الحكم بالاستبداد والقسوة، وان كان الجميع يشتركون في أن قيادات المرحلة الشيوعية، أصبحت هي ذاتها قيادات المرحلة التي أعقبتها، لم تتغير فيها سوى أسماء الأحزاب الحاكمة، التي غيرت لافتاتها، ولم تغير شيئاً من أساليبها.
(3)
تبدو أذربيجان بلداً مهموماً وحائراً، رغم أن الجميع يحسدونه لما توفر له من نفط ومكانة استراتيجية. الهم الأول الذي يحدثك فيه كل مسئول يتمثل في احتلال أرمينيا المجاورة لمنطقة "قرة باغ" - معناها في التركية الغابة السوداء - التي تمثل 20% من أراضيه، وتشريد مليون شخص من سكانها. (يشبهونها بفلسطين القوقاز). وهي المشكلة التي عجزت الحكومة عن حلها، لان أرمينيا مؤيدة من جانب روسيا كما أن "اللوبي" الأرمني في الولايات المتحدة يضغط لصالحها باستمرار، الأمر الذي يدفع الإدارة الأمريكية إلى الوقوف ضد التطلعات الأذربيجانية في هذه القضية. وفي هذا الصدد حكومة باكو أرادت أن تستعين بالأوروبيين في محاولتها استعادة أرضها المحتلة، فانضمت إلى منظمة الامن والتعاون الأوروبية لهذا الغرض، غير أن الأوروبيين لم يهتموا بالقضية، وإنما ركزوا اهتمامهم على أمور مختلفة تماماً، من بينها مطالبة أذربيجان بتطبيق المعايير الأوروبية في التعامل مع المجتمع، ولهذا السبب فان إطلاق حرية الشاذين أصبحت إحدى المشاكل المعلقة بين الطرفين. إذ ما أن تلقي الحكومة القبض على نفر من أولئك الشاذين الذين يتنطعون على نواصي بعض شوارع العاصمة، حتى تنهال الضغوط عليها، مطالبة بإطلاق سراحهم، ومتهمة إياها بمخالفة التزاماتها كعضو في المنظمة الأوروبية. سمعت هذا الكلام من أحد الدبلوماسيين الاذريين، الذي قال بمرارة: لقد التحقنا بالمنظمة لكي نحرر "قرة باغ"، فإذا بنا نفاجأ بأننا مطالبون بإطلاق حرية الشذوذ!
أما الحيرة في أذربيجان فراجعة إلى أن البلد تتجاذبه مختلف الدول ذات المصلحة فيها، روسيا من ناحية وتركيا من ناحيةثانية ، والولايات المتحدة قبل الجميع. في السابق كانت النخبة تتجه إلى موسكو وتتعلم الروسية، وكان المستعربون من الفئات المميزة بين عناصر النخبة للأسباب التي نعرفها. الآن اختلف الوضع، وأصبحت النخبة تتجه إلى أوروبا أولاً ثم الولايات المتحدة بعد ذلك، والمستعربون تراجع دورهم وأكثرهم اصبحوا عاطلين عن العمل، وبعدما أصبحت الاذرية المكتوبة بالحروف اللاتينية هي اللغة الرسمية للبلاد، فان انقلاباً ثقافياً حدث في البلاد. الآباء ذوو الثقافة الروسية اصبحوا عاجزين عن التواصل مع أبنائهم الذين يدرسون الأذربيجانية ويتكلمون بها. كما انهم اصبحوا عاجزين عن مشاهدة تليفزيون باكو. أما الأجيال الجديدة التي تتكلم الاذرية، فقد أصبحت عاجزة بدورها عن مطالعة كل التراث الثقافي في البلاد المكتوب بالروسية وبالحروف الكريلية.
(4)
المشهد من هذه الزاوية مسكون بالمفارقات، فالحكومة أنشأت لجنة لضبط العملية، وعينت على رأسها مستعرب يطلق عليه عرفاً لقب وزير الشئون الدينية. وهذا المستعرب - الدكتور رفيق عليوف - كان مسئولاً عن التعبئة الإلحادية في المرحلة السوفيتية. لكنه انتقل إلى المربع المعاكس بعد زوالها، فأسس في فندق يملكه مركزاً للدراسات الإسلامية باسم "إرشاد"، وبدأ يكتب في الشئون الإسلامية. ولان روسيا هي معقل الارثوذوكسية في آسيا، فكنيستها هي الأنشط في أذربيجان. والذي يقود عملية تنصير المسلمين لصالحها، رجل اسمه "الدار زادة"، وبسبب نشاطه حصل على وسام رفيع من بطريرك موسكو. ورغم أن المنصرين الارثوذوكس هم الأنشط، إلا أن البروتستانت والكاثوليك هم الأوفر مالاً، لأنهم مدعومون بمنظمات بالغة الثراء في الولايات المتحدة وأوروبا.
من الطرائف في هذا الصدد أن بابا روما زار باكو، يصحبه 250 صحفياً، في حين لم يكن في أذربيجان حسب الإحصاءات الرسمية سوى 40 كاثوليكياً فقط. ولفت الأنظار انه أثناء زيارته أقام في الفندق الذي يملكه "وزير" الشئون الدينية. والشائع انه اتفق أثناء الزيارة على إقامة كنيسة للكاثوليك اعتمد لها مبلغ 37 مليون دولار، خصوصاً بعدما ارتفع عدد الكاثوليك في باكو من 40 إلى 140 شخصا!
الذين يرصدون هذه التحركات والإشارات، لم يفتهم أن يلاحظوا انه في تلك الأجواء تمت دعوة "وزير" الشئون الدينية لزيارة طويلة إلى الولايات المتحدة استغرقت 40 يوماً.
لا نستطيع أن نغادر هذه النقطة دون أن نشير إلى اليهود الذين يمثلون نصف في المائة من السكان. وهؤلاء ليسوا معنيين بتغيير عقائد الناس بطبيعة الحال، ولكن كل همهم مركز على أمرين: تثبيت الجذور وتعزيز النفوذ في المجتمع، وأهم من ذلك توثيق علاقات اسرائيل بأذربيجان، من خلال تنظيم الرحلات السياحية وتبادل الوفود والخبرات. ومعروف أن اسرائيل كانت من أوائل الدول التي فتحت لها سفارة في باكو، وأقامت خط طيران مباشر بين باكو وتل أبيب.
(5)
طوال الرحلة، كنت أراجع بين الحين والآخر مقالاً نشرته مجلة "بيزينيس ويك" الأمريكية في 27/5، واعتبرته موضوع الغلاف. وكان عنوان المقال هو: جبهة البترول القادمة، وقصد بها منطقة بحر قزوين، التي تقع أذربيجان في قلبها. قدرت المجلة حجم النفط المدفون في باطن البحر بمائتي بليون برميل، وهو يمثل ثروة قيمتها 2.7 تريليون دولار بأسعار اليوم. هذه الثروة الهائلة تشكل مصدر إغراء لا يقاوم للشركات الأمريكية وغيرها من الشركات العالمية. والشركات الأمريكية وحدها تعتزم استثمار 50 مليار دولار لاستخراج وتكرير وتصدير نفط بحر قزوين خلال السنوات العشر القادمة. وتعمل الولايات المتحدة على ضخ ذلك النفط إلى أوروبا من خلال خط للأنابيب يمتد من باكو إلى جمهورية جورجيا المجاورة، ومنها إلى تركيا ثم أوروبا. ولتأمين ذلك الخط فان الولايات المتحدة أرسلت عدداً من خبرائها العسكريين إلى جورجيا بدعوى مكافحة الإرهاب.
ذكر التقرير انه منذ زحف الاسكندر الأكبر إلى قلب آسيا، لم يطأ جندي غربي قدمه هناك إلا في السنة الأخيرة، حيث تواجد في المنطقة اكثر من 4000 جندي أمريكي، بعضهم لتأمين النظام الأفغاني الجديد، وأكثرهم لتأمين المصالح والتطلعات الأمريكية التي تتراوح بين ذهب ازوبكستان ونفط بحر قزوين، والتواجد الأمريكي ليس مقصوراً على الاف الجنود الموزعين على 12 قاعدة عسكرية هناك، ولكنه يتجاوز ذلك إلى الاستثمارات والمعونات التي تستهدف تسكين شعوب المنطقة وإقناعها بأن الوجود الأمريكي كفيل بتعويضهم عن سنوات الفاقة والمعاناة في ظل المرحلة السوفيتية، فضلاً عن انه ضمان لحمايتهم في مواجهة محاولات الإلحاق والهيمنة التي لم تتخل عنها روسيا حتى اليوم. ان المرء وهو يصادف هذا الكم المثير من المعلومات والمشاهد، يعذر اذا تراجع اهتمامه بذلك المؤتمر المتواضع حول السلام في القوقاز، الذي انعقد بالعاصمة الجورجية "تفليس"، ودعيت للمشاركة فيه من قبل شيخ الإسلام في باكو شكر الله باشازادة، بالتعاون مع لجنة مسلمي آسيا، التابعة للهيئة الخيرية الإسلامية العالمية بالكويت. ولا اعرف ان كنت مديناً لهم بالاعتذار أم لا، عن عدم الإشارة إلى ما جرى في ذلك المؤتمر الذي استمر يومين، لكني أظل في كل الأحوال مديناً لهم بالتقدير لجهودهم، والشكر لهذه الإطلالة التي وفروها لي.