DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

منتصف المسافة بين التصلب والمسايرة

منتصف المسافة بين التصلب والمسايرة

منتصف المسافة بين التصلب والمسايرة
منتصف المسافة بين التصلب والمسايرة
أخبار متعلقة
 
أحد الأسئلة الرئيسة التي يطرحها إدوارد دي بونو مؤسس ورئيس مركز أبحاث الإدراك بجامعة كيمبرج في كتابه (الصراعات) هو: لماذا يختلف الناس؟ ويجيب قائلا: لأن الناس مختلفون . اما لماذا هم مختلفون . فذلك لأنهم يفكرون بطرق مختلفة ولماذا يفكرون بطرق مختلفة ؟ لانهم يريدون أشياء مختلفة , ولأنهم ينظرون للأشياء بصور مختلفة , ولأن لهم قيما ومفاهيم مختلفة . لهذا كله يقترح بونو طرقا تفاوضية اخرى ـ غير الجدل ـ للخروج من حالة التناهش الى حالة التعايش , ذلك أن أي جدل حول هذه الاختلافات قد لا يؤدي الى نتيجة ترضي كل الأطراف. عندما تدور مناظرة بين اثنين حول مسألة ما فإننا لا نتوقع أن يبادر أحد طرفي تلك المناظرة , في نهاية المطاف الى رفع الراية البيضاء استسلاما لحقيقة الآخر , ان (من دون ذلك خرط القتاد) كما يقال : ذلك أن التصلب , في مثل هذه الحال هو سيد الموقف. كما وأن الجدل الدائر في الأساس لا يهدف الى البحث عن الحقيقة بل ان كثيرا من جدلنا المقروء والمتلفز لا يحقق الوصول الى نتيجة أو تسوية ما , ولا يهدف الى البحث عن الحقيقة وإن ادعى ذلك، لأن كل طرف يريد تأكيد حقيقته الخاصة , ثم كيف يرفع الراية البيضاء من يدخل الحلبة تحت شعار "ونصدرهن حمرا قد روينا " ... بدماء الحقائق المسفوكة فوق ساحة الحوار. إن المسألة تتحول من البحث عن الحقيقة الكلية الى الدفاع عن الحقيقة الخاصة. لأن أي مساس بتلك الحقيقة , حسب طرق الحوار السائدة حاليا , إنما هو اعتداء صريح على شخصية المحاور , وإذا كانت الحوارات التي نشهدها يوميا على شاشات الفضائيات العربية تصلح لتمضية أوقات الفراغ وتسلية المشاهدين , فإنها لا يمكن أن تكون وسيلة لتجسير الهوة بين وجهات النظر المختلفة.. لكننا نتكلم كي لا نشعر بالوحشة على حد تعبير جبران , ولعل هذا هو ما يدفع بونو الى الاعتقاد بان الجدل غالبا ما يصل بصناعه الى طريق مسدود، كما يعتبر طريقة تقليدية وبدائية لحل الصراعات أيا كانت طبيعتها. يزداد التعقيد سوءا عندما يكون الصراع ذا طابع فكري أيدلوجي , لذلك يقترح بونو طريقة للتفاوض مستقلة تنتهج أسلوب التفكير بدلا من أسلوب الجدل , وتكون خارج سلطة الأيدلوجيا , كما يتطلب الأمر طرفا ثالثا يستطيع النظر الى المشكلة من زاوية ثالثة لا يراها طرفا النزاع , لكن اقتراح بونو المؤسس على الاستخدام الأمثل للعقل لا يجدي مع أطراف تعطل كل أدوات التفكير وتتخذ التصلب هدفا لذاته. الناس مختلفون في أسلوب ادارة خلافاتهم، فمنهم المرن والمراوغ والمتصلب والمساير والانهزامي , وبما أن جزءا من هذا المقال قد ركز على حالة المراوغة والتصلب في ادارة الخلافات فلا بأس أن نتناول في السطور التالية حالة أخرى مناقضة لذلك، وهي حالة اللين والاستسلام والانهزامية التي تصل بصاحبها الى حدود الانسحاق والتلاشي . ففي قصة للكاتب الروسي تشيخوف عنوانها (المغفلة) نقرأ حوارا بين رب العمل ومربية أولاده سأختصره على النحو التالي: (اجلسي يا يوليا... هيا نتحاسب .. لقد اتفقنا على أن أدفع لك ثلاثين روبلا في الشهر) , وتجيب يوليا بصوت خجول هامس : (أربعين)! ويرد رب العمل قائلا: كلا ثلاثين.. هذا مسجل عندي .. لقد عملت لدينا شهرين.. وترد يوليا على استحياء :( شهرين وخمسة أيام ) .. بل شهرين بالضبط .. إذن تستحقين ستين روبلا ... نخصم منها تسعة أيام آحاد فأنت لم تدرسي كوليا في أيام الآحاد بل كنت تتنزهين معه فقط .. ثم ثلاثة أيام أعياد .. وثلاثة أيام كانت أسنانك تؤلمك.. وكان كوليا مريضا أربعة أيام .. إذن اثنا عشر زائد سبعة ـ تسعة عشر روبلا .. وقبيل رأس السنة كسرت فنجانا وطبقا نخصم روبلين .. وبسبب تقصيرك تسلق كوليا الشجرة ومزق سترته ..نخصم عشرة , وبسبب تقصيرك أيضا سرقت الخادمة من فاريا حذاء .. ولذلك نخصم أيضا خمسة .. وهكذا يستمر الرجل في الخصم الى أن يتحول المبلغ من ثمانين روبلا الى أحد عشر روبلا فقط والمسكينة لا تجيد إلا الصمت والتسليم ولغة الدموع .. هكذا تتناول المربية المبلغ وتضعه في جيبها بأصابع مرتعشة قائلة: (شكرا) .. عندئذ يستولي الغضب على رب العمل ويسألها : (شكرا على ماذا؟ ..... لقد نهـبتك !!!) وبعد أن يعيد لها نقودها كاملة .. يتساءل: "هل يمكن أن تكوني عاجزة الى هذه الدرجة ؟ لماذا لا تحتجين "؟ .. ثم ينهي ذلك الدرس بقوله : "ما أسهل أن تكون قويا في هذه الدنيا"!. وإذا كان ما قام به الرجل عبارة عن دعابة أراد بها تلقين مربية أطفاله درسا في الدفاع عن النفس فإن هذا النموذج او الأسلوب في التعامل موجود على أرض الواقع بأشكال ووجوه متعددة وغالبا ما تكون تلك الطريقة المجحفة مصدرا من مصادر التوتر الاجتماعي. وإذا كانت المرونة في التعامل دليلا على دماثة الخلق وروح التسامح , ونقيضا للصلف ووعورة الطبع , فإنها لا تعني , بأية حال من الأحوال , المسايرة أو الاستسلام على ذلك النحو الذي صوره تشيخوف , ذلك أن المسايرة التي أبدتها مربية الأطفال لا تحل الاختلافات بل تتركها معلقة , او بتعبير آخر : تتركها جمرا مدفونا تحت الرماد , فالمسايرة علاج مؤقت يختبئ خلفه توتر خفي ما أن يجد منفذا حتى يندلع بركان غضب وحمما , كما أن المرونة لا تعني الروح الانهزامية فالانهزامية نتاج تربية تحول بين المرء وبين تدبر أموره وتحمل مسؤولياته ومواجهة مشكلاته بنفسه , وهي دليل على ضعف روح الاقتحام , وعدم الثقة بالنفس والتقليل من قدراتها , مع ذلك فإن الكلام عن نبذ الروح الانهزامية لا يعني تمجيد العنتريات المتصلبة التي تعمى عن قراءة الواقع , فما أكثر ما أضاع التصلب الغبي فرصا وأزهق أرواحا ! المرونة . إذن , هي موقف وسط بين المسايرة والتصلب , أي بين أن تكون (لينا فتعصر او يابسا فتكسر).