عزيزي رئيس التحرير..
لكل بلد خصيصة ثقافية تستأثر بها وتميزها عن بقية البلدان، ومن الظلم حقا الا يراعى ذلك في قضايا التنمية فتجور الانشطة الانمائية والمشاريع التنموية على تلك الخصوصية فتلغيها بالكلية او في احسن الاحوال تشوهها وتكدر بياضها الناصع. مكة المكرمة، وما ادراك ما مكة المكرمة، ديار بزغ منها النور الساطع فأضاء الكون واشرأب اليها عنق الدنيا بأسرها يرتجي قبسا من ذلك النور الرباني ليطمس غياهب الجهالات والظلمات ويرجع الانسان الى فطرته السوية بعد ان اجتالتها شياطين الانس والجن فحادت بها عن الطريق المستقيم والنهج القويم، اذا فمكة المكرمة خصوصياتها تنبع من كونها بلد الرسالة الالهية الخالدة الى يوم الدين، والرسالة (رسالة الاسلام) معناها الاعم تبليغ هذا الدين الى كافة العالمين وقبل هذا وفي اثنائه وبعده، مسئوليتها العظمى في ضخ صحيح الدين في شرايين المسلمين الوافدين اليها، اذ هم سيكونون لاحقا الدعامة الاقوى في ايصال الفكر السليم الذي تشربوه الى اهليهم عند الاياب الى بلدانهم. نعم، ان كلمة "الدين" عندنا اوسع شمولا واعم مدلولا، بل ان المفهوم يتسع ليشمل كل انشطة الحياة للفرد والمجتمع والدولة، وذروة سنام ذلك تلك الاعمال بعد تحقيقها، ايصال هذا النور الى العالم دعوة وجهادا قائمين على العلم الصحيح المستمد من الكتاب المجيد والسنة النبوية المطهرة، لنعد الى ارض الواقع لنتبين هل ما حدث بمكة المكرمة من تغييرات هائلة نوعية وفي جزئية محددة "العمارة" حقق ذلك الهدف السامي والذي هو كما اسلفنا خصيصة لهذا البلد المقدس؟.
اجدني مضطرا للقول بان ما اقيم من عمارة مهولة رائعة "جعل الله ذلك في ميزان حسنات ولاة الامر للحرم المكي وما جاوره، كان من شأنه تقديم خدمة عظمى للمسلمين وذلك بتسهيل امر الصلاة بالحرم وحيازة ذلك الاجر العظيم المتمثل في كون الصلاة هناك تعدل مائة الف صلاة فيما سواه، ان ذلك لا ريب عمل عظيم وهدف سام، الا انه بالتأكيد ليس كل المأمول نظرة سريعة بعد الخروج من الحرم المكي مع تجوال بسيط فيما حوله يشعرك بالأسى، نعم، ايعقل ان تكون "مكة المكرمة" ببعدها الديني والفكري، وفي اقرب بقعة منها الى الحرم، كلها "مطاعم" لتجهيز شتى فنون "المطاعم"؟ الهذه الدرجة بلغ الجوع بالزوار حتى ليخيل للرائي ان هؤلاء جميعا قد قدموا من ارض فقر او صحراء قفر!! قد يقول قائل ان ذلك الامر لابد منه لكثرة الوافدين فأتفهمه، لكن ماذا عن بقية الاهداف المبتغاة من الحضور هنا؟ الا يوجد جوع اخر غير ذلك المختص بالبطن؟ حشود هائلة من المسلمين تتوافد هنا تباعا ومن شتى الاقطار، ماذا اعد لها لاطفاء جوعها وري ظمئها العقدي والشرعي والدعوي والثقافي؟؟
يا أمانة العاصمة المقدسة.. جدير بتلك الديار المباركة ان تحتضن تلك الفعاليات لتؤدي دورها الصحيح ولتحقق هويتها الثقافية التي تميزها عن سائر الاقطار والبلدان:
1ـ منشآت ضخمة ملحقة بالحرم من جانب واحد كيلا تعوق اي توسعة مستقبلية، خاصة بدروس العلم الشرعي يستقطب لها اكابر علماء العالم الاسلامي، تكون بمثابة دور للرباط تحتضن طلبة العلم من اقطار العالم الاسلامي، ويصرف عليها من اوقاف الحرم.
2ـ منشآت تابعة ايضا للحرم، خاصة بالدعوة، يستقطب لها اكابر دعاة العالم الاسلامي من ذوي الفكر الصحيح والنهج الصريح، ويكون لهؤلاء حلق دروس ايمانية تخدم كل اولئك الوافدين والشباب منهم بالذات، فبدلا من التسكع بالاسواق بعد الفراغ من الصلوات وانتهاك قدسية المكان الفاضل، سيجد اولئك في تلك الحلق الايمانية نفحات نورانية تعيد ضالهم الى الصواب باذن الله وكم سيعود ذلك بالمكاسب العظيمة على الامة، وهل الامة الا شبابها؟
3ـ مكتبات عظيمة الكم والكيف توزع هنا وهناك حول الحرم، تحتوي على كل مامن شأنه ان يقيم فكرا قويما وثقافة موسوعية، فديننا دين العلم والفكر.
ختاما، ليس هذا فقط كل ما يمكن ان تجود به تلك الديار المقدسة على مرتاديها ليعودوا اشد ما يكونون صلابة في الدين وقوة في العقل وسعة في الفكر، بل ان هناك امورا اخر، لكن لو تحقق ماطرح او شيء منه، لاضفنا لبنات في بناء كيان الامة، وأي ديار اجل من تلك الديار القيام بتلك المهمة واي رجال اصلح من اهليها وبنيها، لا اجل منها ولا اصلح منهم بالتأكيد.
فهل نرى قريبا اطلالة جديدة لوجه العاصمة المقدسة يعيد اليها هويتها الثقافية المستمدة من رسالتها السماوية؟؟
د. ابراهيم عبدالرحمن الملحم