شاعت في السنوات القلائل الفائتة بعض المصطلحات التسويقية المستحدثة.. كالجودة الشاملة (M.Q.T).. والهندرة (Re-engineering) .. والهندسة القيمية (Value Engineering) وغيرها, يبدو أننا بالفعل نعيش في زمن الانفجار المعرفي وزخم الأفكار الجديدة التي تولد في الغرب وتختبر وتطور هناك ثم تأتينا (معلبة) وجاهزة للاستهلاك الذي نبدأه سريعا دونما تمحيص وتعديل او مراعاة لثقافتنا وظروفنا الاجتماعية والمناخية, سنتناول في هذا الموضوع (جودة البناء) ونحاول ان نوجد مفهوما محددا للجودة المطلوبة في مجال البناء والتشييد مع التعرض للآثار الاقتصادية المترتبة على هوسنا الشديد وميلنا الفطري لتحقيق أعلى درجات الجودة عندما نقدم على بناء مساكننا ومنشآتنا المعمارية الأخرى.
الجودة.. تلك الفاتنة الحسناء التي اقتحمت مختلف المجالات في السنوات الماضية كالصناعة والهندسة والخدمات والإدارة والتسويق, فأصبحنا نسمع عن جودة المنتخبات وجودة الدواء وجودة الطعام وجودة العمل وجودة البيئة وجودة الهواء وجودة الحياة وربما نسمع قريبا عن جودة الموت فمن يدري؟ وللدلالة على نفوذ هذه (الجودة) فاننا عندما نرغب في شراء منتج ما نسأل أولا عن الجودة؟ مع اننا لو سؤلنا ماذا نقصد بالجودة التي نسأل عنها لما أجبنا, لأننا ببساطة نسمع عن الجودة ولا نعرفها على وجه الدقة.
ربما من المستحسن ان نحاول تحديد مفهوم الجودة فالبعض يعتبر ان الجودة مواصفات وخصائص وآخرون يعتبرونها طريقة ونظاما وغيرهم يعتبرونها مستوى أداء ووظيفة وبعضهم يعتبرونها سلسلة عمليات (Processes) اذا الجودة مفهوم مختلف لدى أشخاص مختلفين فمفهوم الصناعي للجودة يختلف عن مفهوم المهندس الذي يختلف عن مفهوم الإداري الذي يختلف عن مفهوم المتخصصين في التسويق وهكذا.
ولقد أصبح للجودة اتباع وجمعيات ومنظمات ولقاءات دورية وربما نسمع قريبا عن جمعية حقوق الجودة, وآخر ما تردد مؤخرا مصطلح (ثقافة الجودة) كمحاولة للتعبير عن الجودة كممارسة حياتية وأسلوب فكري وطريقة عمل.. فهل تصدقون ان للجودة ثقافة!! ربما لو قالوا (جودة الثقافة) لكانت اسهل هضما.. مع اننا في هذه الحالة سنعود لجدلية التعريف فالثقافة ربما نستطيع ان نتفق على معناها وستبقى الجودة مجالا خصبا للنقاش والاجتهاد!!
وهذه الجودة التي طالت كل شيء تغلغلت في مناحي حياتنا المختلفة ومنها القطاع العمراني فقد أصبحت تتردد في أوساطنا المهنية والهندسية عبارات مثل (جودة البناء) (جودة مواد البناء) (جودة التصميم) (جودة التنفيذ) فما هذه الجودة التي أصبحت الشغل الشاغل لدى المعماريين والمهندسين والمقاولين ومصنعي مواد البناء وأصبحت ورقة تسويقية يلوحون بها أمام أعين البسطاء من عامة الناس؟ هل هي شيء ثابت مسلم به ومتفق عليه؟ أم أنها مفهوم متغير بحسب الزمان والمكان والأشخاص؟
ما أراه أنا ان الجودة.. كلمة هلامية رنانة شبيهة بمادة الزئبق الى حد بعيد, وقد لا يوافقني هذا الرأي دعاة ومؤيدو الجودة وهم كثر, ومع اعتذاري الشديد لهم وللآنسة المحترمة (جودة) فأنا أرى أن الجودة في هذا الوقت ليست سوى مادة دعائية وشعار إعلامي لا أكثر, لن أذهب بكم بعيدا ولكنني سأحدثكم فيما أفقه فيه وهو عالم البناء والتعمير, فماذا نقصد بجودة البناء؟ هل الجودة هنا المقصود بها البناء الذي يحقق الوظيفة المطلوبة ام البناء الأوفر سلامة ام البناء الأضخم حجما ام البناء الأطول عمرا ام البناء الأبهى شكلا ام البناء الأنسب تكلفة ام البناء الأقل صيانة؟ وأم هذه ستطول وتطول.
نستطيع ايضا ان نتناول جودة البناء من منظور آخر فنقول هل المقصود جودة أعمال تنفيذ البناء التي تؤديها اليد العاملة ام انها جودة مواد البناء نفسها ام انها جودة الآليات والمعدات المستخدمة ام انها جودة ومرونة التصميم المعماري (المساحات والفراغات والارتفاعات والأشكال) ام انها جودة التصميم الهندسي (الأنظمة الإنشائية والكهربائية والميكانيكية)؟ ربما تكون الجودة مزيج من جميع هذه الأمور مع اختلاف المقادير باختلاف الأشخاص وهذا الاختلاف في المقادير يجعل الناتج النهائي لمفهوم الجودة مختلفا من شخص لآخر.
ان ما نراه اليوم مما يقال ويشاع عن (جودة البناء العالية) ليس سوى اسراف ومبالغات وتكاليف مرتفعة أصبحت عائقا حقيقيا لبناء المساكن في المملكة, وهنا سأعرض بعضا من المفاهيم الخاطئة تجاه جودة البناء وهذه المفاهيم شائعة لدى عامة الناس ومنها ما يلي: (اذا تعبت وخسرت في البناء اخسر صح) ويالها من خسارة!! (احرص على الجودة العالية) وياله من حرص على وهم!! (مواد البناء غالية الثمن هي الأعلى جودة فأبحث عنها) مع انها هي التي تبحث عنه!! (اقرأ الجودة الحقيقية في أعين الآخرين) وكم سيتعب!! (الجودة هي الفخامة والمتانة والجمال الأسطوري) ولكل شيء ثمن!!
لقد قيدنا أنفسنا بهذا الوهم الكبير المسمى (الجودة العالية في البناء) فقد ترسخ في أذهاننا ان ما غلا ثمنه ارتفعت جودته!! فعندما نسأل عن مادة بناء في السوق ونجدها رخيصة الثمن أكثر مما نتوقع تبدأ الشكوك والوساوس تساورنا بأن في هذه المادة قصورا ما وإلا لماذا تباع بهذا الثمن الزهيد؟
ان الخطأ الذي وقع فيه (دعاة الجودة) هو الايحاء بأن هناك مستوى مثاليا واحدا من الجودة يمكن تعميمه على جميع المستويات الاقتصادية في المجتمع.. وهذا الخطأ الفادح جعلنا متعلقين بهذا الوهم الكبير دون ان نشعر, ولذلك فان معالجة هذه المشكلة الثقافية يمكن ان تتم بحلول ثقافية عن طريق نشر الوعي المعرفي بين أفراد المجتمع, ولكل مقبل على بناء مسكن خاص به أقول: ياعزيزي لا توجد جودة قصوى للبناء والجودة العالية التي تبحث عنها.. أنت في الغالب لا تحتاجها مطلقا فلماذا تتكبد تكاليفها وتتجرع ويلاتها؟ ان الجودة ليست سوى معيار شخصي تحدده أنت وفقا لمتطلباتك وقدراتك المادية, وعليه فان جودة البناء المخصص لفئة ذوي الدخل المنخفض (وهي شريحة كبيرة في مجتمعنا) يجب ان تعكس بساطة البناء.. وصغر مساحات وحجوم البناء.. وكفاءة استغلال مساحات البناء.. وعدم المبالغة في جمال ورونق البناء.. وعدم الإفراط في متانة وصلابة البناء.. وهذه جميعها ستقود لخفض تكاليف البناء بشكل كبير, وهذه هي الجودة الحقيقية.
نحن نتحدث كثيرا عن المسكن الاقتصادي والمسكن الميسر والمسكن منخفض التكاليف ولكننا قلما نتحدث عن مبالغتنا في جودة البناء وزخرف البناء ومساحة البناء وضخامة البناء ومتانة البناء وسلامة البناء.. وهذه جميعها مصادر رئيسية لارتفاع تكاليف البناء.. انا شخصيا اعتقد أن هناك مبالغات كبيرة في جودة مبانينا ولذلك فنحن بحاجة لما أسميه (الجودة الذكية) وهذا المصطلح الجديد من بنات أفكاري وربما اسوق له وأنافس دعاة الجودة وخبراء الهندسة القيمية, وان سألتموني ماذا اقصد بالجودة الذكية سأخبركم على الفور بأنها الجودة المعقولة التي تعكس الأداء والمستوى والنوعية التي تحقق احتياجاتي المعيشية دون ان تستنزف ما في جيبي من أموال قليلة, أي انها الجودة غير المبالغ فيها والمتوازنة مع امكانياتي المادية واحتياجاتي الفعلية.. هذا هو تعريفي المتواضع لمفهوم (الجودة الذكية) وللمعلومية فهذا النوع غير التقليدي من الجودة لا يعترف بمقاييس المنظمة الدولية للتقييس المسماة (الآيزو) مع احترامنا لها ولكنه يطوح بمعاييرها المكلفة بعيدا ويضرب باشتراطاتها التي تستنزف النقود والجهود عرض الحائط وهذا هو مربط الفرس ياأعزائي, وأرجو ان تكون براءة هذا الاختراع (العبقري) محفوظة باسمي ودمتم!!