يعتبر مفهوم (الشهامة) واحدا من اهم المفاهيم الاجتماعية (المجردة) تداولا بين بني البشر على اختلاف تراكيبهم الثقافية، والاجتماعية، والحضارية، او الدينية، الا ان تقديم تعريف محدد له يبدو امرا في غاية الصعوبة لاسيما ونحن نتحدث عن موضوع متشابك ذي ابعاد نفسية، واجتماعية، وتربوية متعددة.
ـ فما الشهامة؟
ـ وما ابرز مقوماتها؟ وبالتالي معطياتها؟
ـ وما علاقتها بالضمير؟
ـ ثم، كيف يمكن ان نجذرها في نفوس ابنائنا جيلا بعد آخر؟
انها ـ عزيزتي وعزيزي القارئ ـ مجموعة من اسئلة محورية و(مهمة) سنحاول ـ بمشيئة الله ـ وعلى مدى حلقتين تقديم اجابة عنها مع اعتراف مسبق بان الموضوع اكبر من ان تحتويه وتحيط بابعاده المتعددة خلالها، وبالتالي فما سوف اقدمه هو (جهد مقل). .. الشهامة من منظور عام هي ذلك النمط السلوكي الذي يتبناه بعض الافراد، ويقبلون بمقتضاه، وبمحض ارادتهم (الكاملة) درجة من المخاطر بالمصلحة الشخصية قلت او كبرت في مقابل حماية مصالح الاخرين من التعرض للأذى على ايدي قلة عابثة لاتقيم وزنا لوجود الاخرين وسواء أكانت تلك الاضرار مادية أو معنوية.
ـ وهنا لابد وان نقف برهة لنؤكد اننا عندما نتحدث عن مفردة (الآخرين) فاننا نعني في الغالب الوسط الاجتماعي العام الذي يحيا ويعيش فيه الفرد، ويمارس من خلاله دوره الاجتماعي قل او كبر. وبالتالي فليس شرطا (حتميا) ان يربط الفرد بهذا الوسط مصالح آنية، او مستقبلة مباشرة، وان كان من المحتم ان يرتبط به من خلال الخصائص العامة والمشتركة للانسان كانتمائه البشري او المجتمعي بشكل عام.
من هنا كان من المفهوم جدا ان يفهم من تجذرت في نفسه (الشهامة) كيف يقدم الكثيرون يد العون والمساعدة وبكل الطواعية والاختيار التي تصل في كثير من الاحايين الى درجة (الايثار) الى كل من جار عليهم الزمان، وضربتهم كوارث الطبيعة بسيفها البطار كضحايا الاعاصير، والزلازل الارضية، البراكين، وخلافها، وما تخلفه عادة من اثار مفجعة في بقاع شتى من هذا العالم، او اولئك الذين تعرضوا الى حوادث انسانية مفجعة كان مبعثها في الغالب ظلم الانسان للانسان كعملية التطهير العرقي التي قادها بكل وحشية صرب البوسنة والهرسك، او تلك الوحشية والجبروت التي يتعامل من خلالها الصهاينة مع مواطني الارض المحتلة، او الروس مع المطالب الشيشانية... الخ.
ان ارتباط الفرد (الشهم) بالخصائص الانسانية التي سبقت الاشارة لها يبلغ اقصى مداه عندما يتجاوز دور الانسان فيه من مجرد تقديم العطاء المادي في محيطه الاجتماعي الصغير الى ذهابه الى ماهو أبعد من ذلك بكثير، ولعل سلوك اولئك النمط (الشهم) من بني البشر في الذهاب الى وراء حدود بلادهم لا لشيء سوى تقديم يد العون والمساعدة بما في ذلك من تسخير لكل قدراتهم، وملكاتهم، وخبراتهم العلمية والعملية التي قد تسهم ـ بعد مشيئة الله ، في الكثير من الاحايين، في انقاد حياة الاخرين او رفع المعاناة عنهم، والامثلة على ذلك اكثر من ان تعد أو تحصى يقف على قائمتها الوقفات الانسانية الرائعة التي يقفها شعب وحكومة المملكة العربية السعودية مع كل شعب عربي او اسلامي يتعرض لمحنة من محن هذا الزمان. وما اكثرها.
من هنا ـ أيها الاخوة ـ كان من المفهوم جدا ان يتجاوز مفهوم الشهامة معناه الضيق المتداول شعبيا الى ما هو أعم وارحب، وكان من الطبيعي ايضا ان يبتعد في الوقت نفسه عن الطرح السفسطائي لهذه القيمة الانسانية النبيلة، وان يكون بالتالي واحدا من محصلات التراكم الثقافي الانساني اللامادي بمعناه الواسع جدا.
تعود جذور الضمير والاخلاق المنشئة للشهامة الى الجينات الاولى للتنشئة اوالتربية، وخاصة محيط الفرد المباشر وهو العائلة. ان الاطراف الفاعلة هنا هم المتلقي لقيم الشهامة أي الطفل، والشخص المسئول عن تربية الفرد في سنوات حياته الأولى الذي قد يكون الأب، أو الأم، أو الوصي بغض النظر عن درجة قرابته، واخيرا الايديولوجية التي لابد لها وان تلعب دور الاطار المرجعي للجميع.
من هنا نستطيع القول ان تعلم ونقل قيم الشهامة هو عمل (تربوي) و(ثقافي) في المقام الاول ينقله الملقن او المربي للطرف الآخر، هدفه ومنطلقه الأساسي هو زرع قيم (المحبة) و(الايثار) في نفس المتلقى. وعليه فان غرس القيم التي اشرنا لها لايمكن الا ان يعكس دور الانسان المربي وقيمه التي ينقلها قولا وسلوكا في ان واحد. وعليه يصبح الحب اساسا للضمير وليس نتاجا له.
.. ان فن صناعة الضمير (الحي) بما فيه من اخلاق وقيم وفقا للابحاث العلمية المتخصصة لا يتعدى ان يكون نتاجا للمراحل العمرية الثلاث الواقعة بين السنوات الاول من الطفولة، وسن الشباب. فمن خلال هذه المرحلة (العمرية) تتكون وتكتمل منظومة القيم السلوكية التي تعطي معنى ودافعا للتصرف حتى بقية العمر، انها بتعبير آخر المرحلة الحقيقية التي تتشكل فيها شخصية الفرد.
.. الى هنا نفترق مع وعد بلقاء قادم نستكمل فيه حديثنا عن هذه القيمة الاجتماعية الرائعة من خلال المنظور العام لمفهوم الشهامة.