حين تنكشف امام الرأي العام الغربي في الظروف الراهنة حقائق أسلحة الدمار الشامل التي تكدسها اسرائيل، فإننا في لحظة كهذه ينبغي ألا نكتفي بموقف المتفرجين او المراقبين. ببساطة لان هذه الأسلحة موجهة ضدنا، ونحن ضحاياها المرشحون. من ثم فنحن بازاء فرصة لا تضيع ولا تعوض، تتيح لنا أن نسلط الضوء على فصل الإبادة في السجل الإسرائيلي الوحشي، الذي يحفل بجرائم ضد الإنسانية مدفونة ومسكوت عنها منذ نصف قرن.
(1)
أهمية الظرف الراهن ليست خافية على أحد. فالفيلم الوثائقي المثير الذي بثه التليفزيون البريطاني (بي. بي. سي) على شبكته العالمية، حول "سلاح اسرائيل السري"، وضع الرأي العام الغربي امام أزمة ضمير، من حيث انه أعلن على الملأ حقيقة أسلحة الدمار الشامل التي تخفيها اسرائيل عن الأعين، وتنام فوقها مطمئنة ومرتاحة البال. في حين أن بلداً آخر هو العراق تعرض للتدمير والاحتلال بحجة الشك في حيازته لبعض تلك الأسلحة، في ادعاء ثبت كذبه حتى الآن. اهتزت اسرائيل لانكشاف المستور، فاحتجت على بث الفيلم الوثائقي الذي فضح أمرها. ولجأت إلى شن حملة إعلامية ضد الـ بي. بي. سي، حيث ادعت أن الفيلم الوثائقي جزء من التغطية المنهجية المعادية لها والمنحازة للفلسطينيين، كما ذكر داني سليمان مدير الصحافة بالحكومة الإسرائيلية، الذي قال أن الفيلم يظهر اسرائيل كدولة جديرة بالانخراط في دول محور الشر. وهاجم المحطة قائلاً ان نهجها مسكون بالعداء للسامية، وان ذلك النهج يشكل خطراً على وجود اسرائيل بسبب ما تبثه من تشويه، يوفر ذرائع للتنظيمات الإرهابية لمهاجمتها (!) - (هاآرتس - 1/7). ذهبت اسرائيل في الانفعال والغضب إلى ما هو ابعد، فأعلنت عن مقاطعة الـ بي. بي. سي. وأصبحت بذلك الدولة الثانية بعد زيمبابوي التي لجأت إلى مثل هذه الخطوة غير المألوفة. وليس مصادفة أن أعلنت اسرائيل وسط هذه الأجواء - في بيان رسمي صدر عن وزارة الخارجية - عن إيفاد 11 مندوباً إلى العديد من دول العالم، في إطار حملة دعائية واسعة النطاق هدفها تحسين صورة اسرائيل. التي أصابها التشوه - وكان لافتاً للنظر أن من بين تلك الدول التي سيزورها المبعوثون الإسرائيليون خمس دول عربية هي: قطر وعمُان والبحرين والمغرب وموريتانيا.
(2)
هذه العصبية لها تفسير واحد، هو انهم في تل أبيب يدركون جيداً أن فتح ملف أسلحة الدمار الشامل من شأنه أن يفجر العديد من القضايا الشائكة، التي حرصت اسرائيل على تجنب الخوض فيها، مع إخفاء معالمها وطمس آثارها. وهي التي ظلت لعدة سنوات تتملص وتكذب، مدعية أن ما في منطقة (ديمونة) ليس سوى مصنع للنسيج. وهي المعلومة التي أوردها الفيلم الوثائقي، الذي بدأ بعرض قصة المواطن اليهودي مردخاي فعنونو الذي كان أول من أفشى سر القدرات النووية الإسرائيلية. فقد كان الرجل أحد العاملين بالمفاعل، وفوجي بما شاهده، وفي لحظة صحوة ضمير نجح في تصويره من الداخل، حتى اصبح الوحيد الذي يملك دليلاً يثبت تصنيع اسرائيل للقنابل الذرية. وكان الشاب ذو الأصول المغربية الذي درس الفلسفة قد قرر تغيير مجرى حياته كلها فترك العمل بالمفاعل وهاجر إلى استراليا وتحول إلى المسيحية. وقد سمع بأمره أحد محرري صحيفة (صنداي تايمز) البريطانية، بيتر هونام، الذي التقاه ودعاه إلى لندن لكي يبوح بما عنده، ويكشف حقيقة القدرات النووية التي تتكتمها اسرائيل. وهو ما حدث حيث قال فعنونو أن اسرائيل قامت بتطوير ما بين 100 و 200 قنبلة نووية (كان ذلك قبل 16 عاماً) - وأنها تقوم بتطوير قنبلة النيترون وأسلحة نووية كافية لتدمير منطقة الشرق الأوسط بكاملها. وكان تسريب تلك المعلومات (في عام 1986) سبباً في قيام المخابرات الإسرائيلية بنصب كمين له، واستدراجه إلى روما، ثم اختطافه إلى اسرائيل وصدور حكم بسجنه مدة 18 عاماً. من المعلومات المهمة التي ذكرت في سياق الفيلم الوثائقي - التي ذكرها خبراء الانتشار النووي - أن اسرائيل تمتلك سادس اكبر ترسانة نووية في العالم، من بينها أسلحة نووية ذات تكتيكات صغيرة، والغام نووية. علاوة على صواريخ نووية متوسطة المدى، يمكن إطلاقها من البر والبحر والجو. وقد تم تصنيع البلوتونيوم الخاص بهذه الأسلحة في ديمونة. كما يتم تجميع الأسلحة النووية في عوديفات، ويجري تخزينها في زاكاريا ولابون، فيما ترسو ثلاث سفن نووية في حيفا. أما المعامل الإسرائيلية الخاصة بإنتاج الأسلحة البيولوجية والكيماوية، فهي قابعة في نيستيونا.
(3)
البرنامج النووي الإسرائيلي عمره أربعون عاماً، وبدايات تصنيع القنبلة الذرية الإسرائيلية ترجع إلى عام 1962م. وهي المعلومة التي جاءت على لسان نفر من الأحياء الذين عملوا في المفاعل آنذاك (اكثر من مائة منهم أصيبوا بالسرطان جراء التعامل مع المواد المشعة). وكان شمعون بيريز رئيس حزب العمل الحالي هو الشاب الذي عقد مع الفرنسيين صفقة شراء المفاعل. وحين تسربت المعلومات إلى واشنطون (أثناء حكم جون كيندي)، فانه استدعى رئيس الوزراء الإسرائيلي (دافيد بن جوريون) وحذره من حدوث سباق للتسلح في الشرق الأوسط، وطالب بإخضاع المفاعل للتفتيش. لكن الرجل احتال على المفتشين وخدعهم حين زاروا مقر المفاعل. إذ تم اصطحابهم إلى غرفة تحكم مزيفة في الطابق الأرضي من المبنى، في حين حجب عنهم أن ثمة ستة طوابق أخرى تحته، تصنع فيها مادة البلوتونيوم. وحسب المعلومات التي وردت في الفيلم، فانه بعد وفاة الرئيس كينيدي خف الضغط على اسرائيل في هذا الصدد، إلى أن تمكنت جولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل من عقد اتفاق مع الرئيس نيكسون في عام 69 لا يزال معمولاً به حتى الآن، يقضي انه بوسع اسرائيل أن تمضي قدماً في برنامجها النووي كيفما شاءت، طالما بقي الأمر طي الكتمان، وهو ما سمي بسياسة الغموض النووي. تضمن الفيلم عرضاً لما تنتجه اسرائيل من أسلحة أخرى غير تقليدية، واستعاد قصة طائرة الشحن الإسرائيلية التي سقطت في امستردام بهولندا في عام 1992، مما أدى إلى مصرع 43 شخصاً. وادعت اسرائيل في حينه أنها كانت تحمل زهوراً وعطوراً. لكن الأعراض الغريبة التي ظهرت على بعض سكان المنطقة التي سقطت فيها الطائرة، دفع البرلمان الهولندي إلى إجراء تحقيق استمر ستة أعوام، اضطرت اسرائيل معه إلى الاعتراف بأن طائرة الزهور والعطور كانت في الحقيقة تحمل مادة (تي. ام. أن. بي)، وهي مكون أساسي في تصنيع غاز الأعصاب السام (سارين). وتبين أن الشحنة كانت لحساب المعهد الإسرائيلي للأبحاث البيولوجية في نيسيتونا، وهو أحد اكثر المواقع الدفاعية السرية في اسرائيل، الذي لا يخضع لأي عملية تفتيش خارجي، كما أن الحديث عن أنشطته ممنوع، وخاضع لرقابة عسكرية صارمة. من المعلومات المهمة التي أوردها الفيلم أن وزارة الدفاع الأمريكية وافقت للشبكة البريطانية على عقد لقاء مع مساعد وزير الدفاع دوجلاس فايث (يهودي ليكودي من الصقور)، لمناقشة الطموح النووي الإسرائيلي والاتهامات التي توجه إلى الولايات المتحدة بأنها تكيل بكيلين في التعامل مع ملف أسلحة الدمار الشامل. ولكن قبل موعد اللقاء بدقائق، تلقى مكتب الـ بي. بي. سي في واشنطون رسالة بالبريد الإلكتروني ألغت اللقاء، وقالت أن السيد فايث لا يرغب في الإجابة عن الأسئلة المقدمة إليه بصدد موضوعات المناقشة، ويطلب اعداد أسئلة جديدة، متعلقة بالمسألة العراقية فقط! في الفيلم توجهت مندوبة الشبكة بسؤال إلى شمعون بيريز عن قيام الولايات المتحدة بشن حرب على العراق بسبب الأسلحة المحظورة، وتجاهل اسرائيل، فرد بيريز قائلاً: كيف تقارنون اسرائيل بالعراق التي هي عبارة عن مافيا وليست دولة؟!
(4)
في أمثالنا الشعبية: سر مع الكذاب حتى نهاية الباب. تعالوا بالمناسبة نلقي نظرة على ممارسات الدولة العبرية، التي ليست مافيا.
@ في 6/3 الماضي، نشرت صحيفة (الشرق الأوسط) على صفحتها الأولى أن طائرات إسرائيلية أقدمت في اليوم السابق على رش مواد كيماوية سامة على مساحات زراعية واسعة يملكها الفلسطينيون في منطقة النقب (جنوب فلسطين) - ونقلت عن بيان أصدرته جمعية (الأندلس) ومقرها النقب أن السموم أدت إلى إصابة عدد من الأطفال، كما تسببت في نفوق عدد كبير من المواشي، وحرق مساحات واسعة من الأراضي المزروعة بالمحاصيل، وتضرر العديد من المنازل. حسب بيان الجمعية فان اكثر من ألف دونم من الأراضي الزراعية التي تعود لسكان النقب قد تضررت. وهم البدو الذين يعتاشون على الزراعة وتربية المواشي. أما السبب في شن ذلك الهجوم الكيماوي فيرجع إلى أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تشن حملات منتظمة لإجبار آلاف البدو في منطقة النقب على الجلاء عن أراضيهم، والموافقة على تسليمها إلى ما يعرف بإدارة (ارض اسرائيل) مقابل تعويض مادي رمزي، على أن ينتقل أولئك البدو بعد ذلك إلى التجمعات السكانية (المعازل) التي أقامتها اسرائيل لهم في أماكن أخرى (للعلم: الفيلم الوثائقي الذي سبقت الإشارة إليه ذكر أن اسرائيل استخدمت الغاز السام ضد المواطنين في غزة، مما أدى إلى نقل 180 شخصاً إلى المستشفيات للعلاج).
@ في 21/5 فتح أحد الباحثين المصريين ملف الحرب البيولوجية التي تشنها اسرائيل ضد الفلسطينيين بوجه أخص. وقال الباحث وجدي عبد الفتاح سواحل، خبير تكنولوجيا الجينات بالمركز القومي للبحوث في محاضرة ألقاها بأبو ظبي أن اسرائيل لا تكتفي باستخدام عقاقير كيميائية كوسائل تعذيب لانتزاع المعلومات من المعتقلين الفلسطينيين، ولكنها جعلت الفلسطينيين حقل تجارب لعلمائها. حيث يتم تصميم أنواع من الأوبئة والفيروسات والبكتريا والمواد المعالجة وراثياً، التي تهاجم الخلايا البشرية ذات التركيبة الوراثية الفلسطينية فقط. كما تقوم بأبحاث حول أمراض الجهاز الهضمي والتمثيل الغذائي التي يصاب بها الفلسطينيون، وتطوير أنواع من الفيروسات والسموم لوقف مقاومة الجسم لتلك الأمراض، مما يؤدي إلى تفاقم الإصابة بها، والقضاء على الآلاف منهم، ذلك إلى جانب استخدامهم غازات معينة تؤدي إلى العقم. وفي عدد أول مايو من مجلة (القدس) الشهرية التي تصدر بالقاهرة كتب الباحث ذاته مقالاً كشف فيه النقاب عن خلفيات عملية التدمير البيولوجي التي تعدلها اسرائيل. فأشار إلى أن اسرائيل تدير في السر حرباً خفية ترفع فوقها أعلام الخبرة والتقدم العلمي، وتستهدف تدمير وهدم أهم بنية تقدم للمجتمع العربي، وهي ثروته البشرية من خلال مشروع رصد له نحو ملياري دولار أمريكي، أطلق عليه اسم (شلوع) أنشئ كفرع من فروع سلاح الطيران تحت إشراف الجنرال يوفاك توئمان، وتتركز أبحاث ذلك المشروع على إنتاج أسلحة تعتمد على توظيف الهندسة الوراثية في مجال الإنتاج الزراعي. وذكر انه تم رفع النقاب عن بعض المشروعات التي تقترب وحدة (شلوع) من الانتهاء منها. بينها إنتاج برتقال يؤثر على الجهاز العصبي، ويصيب الإنسان بالتوتر والإجهاد الذهني، وإنتاج أدوية بيطرية تستخدمها مزارع الدجاج للوقاية من الأمراض، وهذه الادوية تصيب من يتناول الدجاج بالفشل الكبدي بعد ثلاثة اشهر فقط، وإنتاج مخصبات مشعة لإنضاج سريع للطماطم تؤدي إلى الإصابة بالسرطان، والتأثير القاتل على الحيوانات المنوية للرجال، للحد من التزايد السكاني العربي، كما تم الكشف عن قيام السلطات الإسرائيلية باستخدام مبيدات سامة لإتلاف المحاصيل والغابات في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى تدمير النباتات والحيوانات تدميراً شاملاً يمتد لسنين، ويتسبب في نشر الأوبئة بين الشعب الفلسطيني كالسرطان والشلل والعديد من التشوهات الجسمية.
(5)
الثابت أن هذه الممارسات ليست جديدة. فقد اكتشف الباحث الفلسطيني الدكتور سلمان أبو ستة أن اسرائيل تشن ضد الفلسطينيين حرب الإبادة القذرة منذ عام 48. وعثر في ملفات الصليب الأحمر على العديد من الأدلة الدامغة التي تدينها في هذه الجريمة. وطبقاً للمعلومات التي أوردها في بحث نشرته له الحياة اللندنية (في 1/2/2003) فانه بعد سقوط حيفا في أيدي الصهاينة (في 22/4/48) تدفق آلاف المهاجرين منها إلى عكا، التي كانت تحت الحماية البريطانية آنذاك. وهو ما أدى إلى تكدس السكان بالمدينة، وحين أراد الصهاينة تهجيرهم من عكا فانهم لجأوا إلى الحيلة الشريرة: حقنوا القناة التي توصل المياه إلى المدينة بجرثومة التيفوئيد، وهو ما ترتب عليه انتشار الوباء بين الأهالي والجنود البريطانيين، مما أدى إلى نزوح الفلسطينيين من عكا، وانخفاض عدد سكانها من 25 ألف إلى 8 الاف فقط في غضون أيام قليلة. وهذه التفاصيل ثابتة وموثوقة في تقارير ما زالت موجودة للصليب الأحمر. ذكر الدكتور أبو ستة أن الوثائق أثبتت انه بعد أسبوع واحد من النجاح الذي حققه الصهاينة في عكا، ضبطت القوات المصرية في غزة اثنين من اليهود يحاولان تسميم مصادر المياه التي يعتمد عليها الجيش والأهالي بميكروب التيفوس والدوسنتاريا. واعترف الرجلان بالجريمة واعدما بسببها. وبعد ذلك (في 22/7/48) قدمت الهيئة العربية العليا إلى الأمم المتحدة تقريراً من 13 صفحة، اتهم اليهود بشن حرب ضد إبادة العرب، باستخدام الجراثيم والبكتريا. كما اتهم اسرائيل بالمسئولية عن نشر الكوليرا في مصر، في خريف عام 48 وفي سوريا في فبراير من العام ذاته، وقد نشر هذا التقرير الصحفي الأمريكي توماس هاملتون في صحيفة نيويورك تايمز (عدد 24/7/48). في بحث الدكتور أبو ستة معلومات أخرى مهمة عن مركز اسرائيل للبحوث البيولوجية المقام في مكان منعزل في يافا، وعن تطور أبحاث فنون الإبادة في اسرائيل، من استخدام الفيروسات والبكتريا إلى استخدام السموم القاتلة، التي جرب أحدها في المحاولة الفاشلة لاغتيال السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس (عام 1997) . واستند إلى مراجع عدة في الإشارة إلى اهتمام اسرائيل باستخلاص المواد التي تسبب الشلل والتشنج والهلوسة وعدم القدرة على التحكم في الحركة والتفكير، منبهاً إلى أن العمل في هذه المجالات يتم في إطار برنامج للتعاون مع الولايات المتحدة. لا اعرف لماذا لا يتم تجميع مثل هذه المعلومات في كتاب او فيلم وثائقي واحد، يوصل المعلومات الخطيرة والوفيرة فيه إلى العالم الخارجي بمختلف لغاته. وهي مهمة تمنيت أن ينهض بها مؤتمر وزراء الإعلام العرب الذي انقعد في القاهرة بعد أيام قليلة من بث الـ بي. بي. سي للفيلم التسجيلي، وتعامل مع الموضوع بدرجة لافتة للنظر من اللامبالاة وعدم الاكتراث. ومن أسف أن قنواتنا الفضائية بدورها لم تلتفت للموضوع، ربما بسبب انشغالها المستمر بتقديم أغاني شاكيرا ونانسي عجرم!