يمر المجتمع بمرحلة بدأ فيها يدرك أهمية الحوار وان الاختلاف والتنوع في الآراء ووجهات النظر سنة كونية وطبعية من طبائع البشر من المفيد استثمارها وتوجيهها والتعامل معها لصالح المجتمع لذلك يجب إتاحة فرص الحوار واحترام الرأي الآخر, تستحق ان نفتخر بها والتعامل معها والاستفادة منها, لمناقشة الأمور العامة دون ان يشعر المواطن بانه يمارس شيئا خاطئا, أحيانا لا مفر من مواقف حدية قد لا تعجب البعض في حينها ولكن يشهد لها التاريخ فيما بعد.
الجيل القادم سيلومنا اذا لم نستنفر كل مقدرات المجتمع لمواجهة التحديات, ومعالجة القضايا وجوانب القصور بصدور وعقول مفتوحة لتقبل الآراء وان تباينت فالهدف واحد, عندما نكتب نطرح آراء وأفكارا تبحث عما يخدم ويصلح ويستفيد منه المجتمع, لا نقصد الأشخاص لأنهم متغيرون اليوم يتربعون على كراسي الإدارة وغدا يتربعون على كراسي منازلهم, لا يهمنا الأشخاص بقدر ما يهمنا أعمالهم وأداؤهم وانتاجهم وانجازاتهم وأساليبهم في العمل وقدراتهم على التطوير وتحسين الأداء ومواكبة المستجدات ورؤيتهم للمستقبل.
فالصحافة منبر يطرح من خلاله الكاتب أفكاره للمناقشة والتفاعل مع الآخرين من المثقفين والمهتمين والمتخصصين والمسؤولين وصناع القرار لذلك ولكي يكون للصحافة أثر إيجابي تتطلب حدا أدنى من الجدية فيمن يكتب فيها, وأول متطلبات الممارسة الجادة للعمل الصحفي ان يكون الصحفي او الكاتب عارفا بما يكتب عنه, يلاحظ ان بعض مما يكتب وينشر حول القضايا الاقتصادية والتنموية ينطلق من خلفية تفتقر الى الإلمام العميق بالمعلومة ذات العلاقة بالموضوع الذي يكتبون عنه لانها تقع خارج مجال تخصصاتهم, وان تخصصهم بعيد عن القضايا التي يدخل في تفاصيلها ويقدم الحلول لها وبالتالي تبنى عليها بالضرورة استنتاجات خاطئة وتصورات مقلوبة وأحكام جاهزة وجائرة أحيانا.
تناولت بعض المقالات في الصحف المحلية موضوع تصنيع محطات التحلية وقطع غيارها محليا والبعض منها يطرح التساؤل لماذا لا تقوم التحلية بتصنيع هذه المواد؟ مبررا ذلك حتى لا تكون التحلية رهينة للعالم الخارجي, تنادي الى ان تسلك التحلية تيارا معاكسا لسياسة الخصخصة التي تتبناها الدولة, في عصر لا يستطيع المجتمع ان يعيش في معزل عن الآخرين حيث ذابت الفوارق الزمنية والجغرافية كما ان التصنيع لابد ان يخضع لمعايير اقتصادية وميزة نسبية, وتوفر سوقا مستهلكة لانتاجه.
قيام التحلية بإنشاء مصنع لقطع الغيار لا ينسجم مع النظريات والنماذج الاقتصادية الفاعلة ويشكل أعباء اضافية على المؤسسة يشغلها ويؤثر على جودة أدائها في محورها الرئيسي, جميع الدول المتقدمة تتجه نحو وتلتزم بمبدأ التخصص الذي هو أكبر دافع للنجاح وحسن الأداء وبالتالي تقوم بما يسمى في الاقتصاد Outsourcing أي التعاقد لتأمين الخدمات والمواد التي يمكن ان ينتجها الغير بتكلفة أقل, اعتمادا على الحجم الكبير للانتاج Economies Of scales بسعر منافس وميزة نسبية سواء من حيث الانتاج او التخصص او التسويق لا تتوافر في المؤسسة لا من حيث التخصص ولا الإدارة.
هل نتوقع ان تقوم مؤسسة الخطوط الجوية بإنشاء مصنع لتصنيع الطائرات او قطع غيارها لمجرد انها تستخدمها في تقديم الخدمات او ان تقوم مؤسسة خطوط الحديد بإنشاء مصنع لتصنيع عربات السكك الحديد لمجرد انها تستخدمها.
كما ان من يملك مطبعة تحتاج الى ورق وقطع ومواد هل من الأجدى ان يقيم مصنعا لهذه المستهلكات او توفيرها بأسلوب Outsourcing من السياسات الإدارية الطاردة لاستثمارات ومزاحمة للقطاع الخاص Crowding Out التي منها سياسة التشغيل الذاتي سواء لمحطات التحلية او بعض مرافق القطاع العام, المستشفيات مثلا, حيث قامت باستقدام ألوف من العمالة الأجنبية من الهند والفلبين وأنشأت جهازا إداريا لذلك, متضخما ومترهلا من حيث العدد والهيكل والرواتب, يقال: انه وفر على الدولة مبالغ مالية, ولكن في ظروف الاحتكار وغياب المنافسة لا يمكن الجزم بذلك, من المعروف والمتفق عليه ان المنافسة تؤدي الى تخفيض الأسعار, بإمكان القطاع الخاص لو ان لم تقفل الأبواب أمامه واتيحت له الفرصة, خلال الثلاثين السنة الماضية من عمر التحلية, ان يقوم بإنشاء كيانات اقتصادية تتنافس في استقدام هذه العمالة وتشغيل المحطات وبالتالي تنخفض تكاليف التشغيل والصيانة وبالتالي تسهل خصخصتها, لان هناك تكاليف لعناصر ثابتة سواء إدارية او فنية تدفع لها رواتبها ومخصصاتها سواء انتجت او لم تنتج, لا يمكن تدويرها بين القطاعات. كما لا يمكن تخفيضها او تأجيرها او اعارتها للآخرين بينما القطاع الخاص يستفيد من تدوير العمالة بين مشاريعه وعقوده وإعارتها للشركات الأخرى في القطاع نفسه, وبالتالي يستطيع تخفيض تكلفته كما يستثمر المنشآت والجهاز الإداري لخدمة أكثر من مشروع او عقد.
وهذه الممارسة من بعض المسؤولين أقفلت الفرص في قيام شركات تتنافس في قطاع التحلية مما أدى الى إعاقة قطاع حيوي في الاقتصاد الوطني, وهذا الموقف يتعارض مع توجه الدولة نحو تشجيع القطاع الخاص وزيادة مساهمته في الاقتصاد الوطني, وسوف تنعكس على تأخير المضي في عملية الخصخصة لان بيئة هذا القطاع غير جاهزة ولا مهيأة لذلك.
استمرار التوجه نحو التشغيل الذاتي وقيام بعض الجهات الحكومية من القطاع العام بتنفيذ أعمال ومشاريع يمكن ان يقوم بها القطاع الخاص, يعتبر هذا منافسة ومزاحمة من القطاع العام للقطاع الخاص, وهذا يعني مضايقة سوق القطاع الخاص Crowding Out ويتعارض مع سياسة الدولة نحو زيادة مساهمة القطاع الخاص في عملية التنمية وهو أمر غير مرغوب فيه ولا يخدم مشروع الإصلاح الاقتصادي ويكون له تأثير سلبي على القطاع الخاص وعلى عملية الاستثمار وما ينتج عنه من فرص عمل للشباب كما يؤثر على انتاجية المجتمع والناتج القومي.
لذلك يجب الدراسة والتعرف على تأثير ممارسات بعض المسؤولين بشأن التشغيل الذاتي والقيام بتنفيذ مشاريع بدلا من طرحها في منافسة للقطاع الخاص, وينظر لحساب التكلفة والعائد من منظور الاقتصاد الكلي, لان المنظور الجزئي يهمل علاقات التكامل والتفاعل التي تعمل معا لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
المهندس/ صالح بن محمد علي بطيش