كتب: طلال قديح

وقفة مع قصيدة «الدمام والهوى» للشاعر عبدالرحمن الدهيبي

قصيدة غرّاء تعكس مسيرة مظفّرة، امتدت أربعين عاما في حقل التعليم، لم يدخر شاعرنا خلالها جهداً، ولم يتوان أبداً عن بذل أقصى ما يستطيع، خدمة لما يضطلع به من مسؤولية جسيمة متمثلة في التربية والتعليم في بلد عربي، بادله حبا بحب وعطاء بعطاء، حتى تجذّر ذلك في قلبه وصار جزءا لا يتجزأ من كيانه وانتمائه، إيمانا منه بما كان يردده لسانه منذ الطفولة، شأنه شأن مجايليه وأترابه:بلاد العرْب أوطاني من الشام لبغدانومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوانعنوان القصيدة يعكس صدق ما يكنّه من إخلاص ووفاء لبلد يتربّع على سويداء قلبه ويستأثر بأسمى مراتب الحب، عشقا وهوى. لله درّك شاعرنا، وأنت تختار هذا العنوان «الدمام والهوى» فتحملنا على جناح ذكريات سعيدة -وما أكثرها- عشناها معا في هذه البلاد الطيبة، فأثمرت ثروة واسعة من الأصدقاء والمعارف والطلاب، نعتز بهم جميعا ونفخر.استهل شاعرنا القادم من لبنان قصيدته بالحديث عن علاقته بالدمام- التي جمعت بين جمال البر وسحر البحر، بل بالمملكة العربية السعودية- الممتدة لأكثر من أربعين عاما. تستقبله وتحتضنه حبا وشوقا.ويتغنى بجمالها الآسر:صخرٌ وبحرٌ كيف يا دمّام ذا؟ حُزت الجمال وتاجه فتقلّديمدت ذراعا كي تصافحني بها وبأختها قد طوّقتني تبتديطَول الوفادة والرفادة واللقا وبكل موروث الكرام الرُوَّدوبدأت مشواري بصحبتها رضا ما انبتّ وصل من يديها أو يديويبلغ عشقه الدمام ذروته:بحرية العينين يا دمام في زرق العيون وريفها مُتوسّديخجلا أداري رغم وجدي مغضيا إغضاء حبيب مستهام مُسهدوأنّى له أن يسلو الدمام التي عشقها حتى الهيام:دمام يا عمري الأنيس ولي بها أسرار شفّت عن هوى متجددإلى أن يقول:في كل شبر من ثراها مجلس أو منتدى للصحب أو للعوّدولا ينسى كورنيش الدمام الفياض بأطيب الذكريات مع الأهل والأحباب:وحزامها في كل شطر رُدتُه قاسمته صبري ومرّ تجلّديذاك الحزام لو سبرت دفينه ألفيت جل دفينه مُتنهديواحاتك الخضر الندية مهجعي خلجانك الزرق البهية مقصديلذا فهو لا يقوى على فراقها:ما إن ودعت بكل صيف أرضها حتى رددت لتربها وأنا الصديهذا هو الوفاء الذي عرفناه في شاعرنا، وفاء للبلاد والعباد: أهلوك أهلي، والهوى صنو الهوى بيني وبينك إذ يروح ويغتديوبنوك أبنائي وفي تهذيبهم مهجتي بذلتُ وكل ما خطت يديأنفقتُ عمري كل عمري راضياً لم أبتئس يوما ولم أترددوهو أسعد ما يكون اليوم وهو يرى الدمام بل المملكة تتبوأ مكانة عظيمة في كل المجالات، يشار إليها بالبنان:واليوم أزهو إذ أراها موئلاً للعلم والإشراق والعيش النديوأنّى له أن ينساها وقد أودع ثراها فلذة كبده «جميلا» ليظل يشده إليها حنين لا يهدأ: واريتُ بعضي في ثراها مؤمناً فاستقبلته وإن يكن بالأسودمن أين لي نسيانها و«جميل» قد أغفى رقادا، يا له من مرقدأغفى، أطال منامه في حجرها ألوت عليه، كما رضيع يثتديضمته في أحضانها واغرورقت دمامُ رِسلك في فتات الأكبدإن يُفتدَ يوماً ترابٌ لم يكن إلاك من يُفدَى، وكنتُ المفتدي أبعد كل هذا، يطلب من شاعرنا، برهان أكيد على صدق حبه للدمام وأهلها الميامين؟قصيدة تنبض عشقاً، وتتدفق عاطفة، تلامس شغاف القلب، وتستمطر العيون دمعا، وتؤكد الوفاء لبلد احتضنه خمسة وأربعين عاماً، كانت عامرة بالعطاء، حافلة بمسيرة غنية زاخرة بأخلص الأصدقاء.وتعكس أيضاً شاعرية متألقة، مبدعة، ترفدها ثقافة واسعة باللغة العربية، نحوها وصرفها وعروضها، لتؤكد أن شاعرنا عبدالرحمن الدهيبي القادم من لبنان والذي غادر الدمام، ينتمي بما لا يدع مجالا للشك لذلك الجيل من الرواد العباقرة الذين تتلمذ عليهم ونهل من معين علمهم الذي لا ينفد. تتنافس أبياتها، فكل بيت فيها أجمل من الآخر، لفظا ومعنى وخيالا وعاطفة حتى إنها لتستأثر بكل الاهتمام والتقدير. وتبرهن على شاعرية أصيلة تنتمي إلى بلد، أهدى للثقافة والفكر فحول الشعراء والعلماء والمفكرين. كاتب عربي