بداية الدهشة!
لو سئلت عن أبرز عيب يعاني منه المثقف العربي، ويبدو ملازما له كظل يرافق صاحبه أينما اتجه، وهو يحاول منه الفكاك، أو لا يحاول لأنه قد لا يشعر به، إما لغرور أصابه، فأعماه من أن يرى عيوبه، أو إحباط ويأس من أن يتغير حاله، أو هو عجز أمامه، من جراء ما هو متأصل به ولم يكتشف بعد كيفية الخروج من دوامته، وأنا هنا لا أتحدث عن فرد معين من المثقفين، إنما أتحدث عن حالة عامة يعاني منها المثقف العربي، قد يشذ عنها «البعض» بنسبة ما عن بقية المثقفين، ولكن تبقى النسبة الكبرى محل تساؤل، ومن ثم بحث ودراسة. فكر معي قليلا، وقل لي ما هو ذلك العيب الذي لازم المثقف العربي، من عصر ولادة مصطلح المثقف في الفضاء العربي منتصف القرن الماضي تقريبا، وهو العصر الذي بدأ فيه لأول مرة تداول المصطلح، واتساع حضوره في المشهد الثقافي، إلى يومنا هذا.قل لي الآن، فالأمر بديهي، لكل ذي عينين..!ذلك العيب الملازم له، هو أنه لا يزال المثقف لدينا يعيش إن جاز القول «بداية الدهشة»، أي بداية المعرفة والتعاطي مع المصطلحات والأفكار الجديدة، وعلى رأسها فيما اعتقد مصطلح المثقف، الذي ربما كان أول تحد واجه المشتغلين بشأن الثقافي، كمؤثرين به وليس متأثرين، عاجز عن تجاوز، هذه البداية، ومع هذا عقدة البداية تطول وربما تتشعب مع المثقف، ولكن لا خلاص، من هذه العقدة، لماذا؟. قد يكون البحث لا يزال جاريا..!.خذ مثالا على عقدة «بداية الدهشة»، حينما نأخذ مصطلح المثقف، ونبحث عن دلالة فلسفية له من إنتاج المثقف العربي، نكتشف بأنه لا وجود لأي مفهوم فلسفي لذات المصطلح.يقول الدكتور محمد عابد الجابري عن عقدة هذا المصطلح (المثقف) «لقد لاحظنا أن مفهوم «المثقف» مفهوم ضبابي في الخطاب العربي المعاصر، على رغم رواجه الواسع، إذ هو لا يشير إلى شيء محدد ولا يحيل إلى نموذج معين ولا يرتبط بمرجعية واضحة في الثقافة العربية الماضية والحاضرة وذلك لأنه بقي على الرغم من استعماله الواسع يفتقد التبيئة الصحيحة داخل الثقافة العربية الإسلامية. وهكذا بقي الإنسان العربي الذي يوصف بأنه «مثقف» ويتحدث عنه بوصفه كذلك، لا يتعرف إلى نفسه بوضوح، لا يعرف لماذا يوصف بذلك الوصف ولا يدري هل يقبله أم لا يقبله. ذلك لأن هذا المفهوم قد نقل إلى العربية من الثقافة الأوروبية عبر ترجمة ناجحة دون شك، ولكنه لم تتم تبيئته بالصورة التي تمنحه مرجعية محددة في فضائنا الثقافي، فبقي «غربيا» على رغم انتشاره الواسع».هنا انتهى كلام الجابري، فإذا كان هذا هو حال المثقف العربي، مع مفهوم الذات المثقفة فكيف يكون حاله، مع ما يطرح من أفكار ومفاهيم، أظن القضية هنا متشعبة حد الفوضى، الذي لا يكفي فيها الوصف الذي ربما تماهى معه المثقف العربي كثيرا ولامس فيه جذر العطل في أحيان كثيرة، وإنما تحتاج إلى تشخيص، ورسم منهج واضح للخروج من هذه الفوضى، التي باتت تشكل، أشبه بالصيرورة التي لازمت المثقف العربي عبر أجيال، حملت لواء التنوير، ولكن دون أن يكون لهذا التنوير بعده الحضاري الملازم لحركة التاريخ، فنحن ما زلنا في «بداية البداية»..! كما عبر عن هذه الحالة أحد المفكرين العرب، حينما وصف حركة الحداثة العربية، والمآل الذي آلت إليه.فالعنوان الرئيس الذي يخرج المثقف العربي اليوم من حالة البداية أو الدهشة الأولى التي استمرت كل هذه السنوات، هو العمل على تعميق واستمرار فلسفة السؤال، حول ذاته أولا، وحول ما يطرح ويتبنى من أفكار، ليتجاوز عقدة البداية، التي لازمته حتى هذه اللحظة.