«داعش» يعيد كتابة التاريخ
كثيرا ما يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون.. فالدول والشعوب الحديثة هي نتاج النجاح، والمؤرخون يبحثون عن أصل أمجادهم. ويسهّل المنتصرون هذه المهمة، حيث يتركون سجلات غزيرة وينهبون سجلات من ألحقوا بهم الهزيمة.فكيف سيبدو تاريخ كتبه المهزومون؟ سيبدو أشبه كثيرا بالتاريخ الذي يكتبه تنظيم "داعش" حاليا.يحتوي التاريخ الإسلامي على قدر جيد من الانتصارات، إذ لم تكتف الجيوش الإسلامية بغزو أراضٍ تمتد من إسبانيا إلى الهند في القرون الوسطى، بل نشر التجار المسلمون دينهم في بقاع أبعد حتى من ذلك وصولاً إلى الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا. وظلت الرياضيات والعلوم الإسلامية في صدارة العالم على مدى قرون من الزمن، كما ساعد العلماء المسلمون على الحفاظ على مخطوطات الأقدمين، التي اعتمد عليها علماء عصر النهضة في خضم إعادة اكتشافهم اليونان وروما القديمتيْن.ويرى جون بي ألترمان، نائب أول رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي، في توقعاته حول "داعش" في العام 2016 أن هذه الانتصارات ليست عنصرا محوريّا في تأريخ "داعش"، إذ يسبح أتباع التنظيم في بحر من مشاعر الغبن والكراهية والانتقام، وهم يرفلون في جنون الاضطهاد وكراهية الأجانب.الحقيقة المحورية التي تمثل خيط الجماعة الناظم لا تُعنى بالقوة التي يملكها المسلمون، بل بالقوة التي خسرها المسلمون، فالإحساس بالظلم هو الذي يحركهم، وضعف الجماعة الفادح هو الذي يحرك معظم أفعالها البربرية ويشرعنها ضد رموز القوة العالمية. ولو نظر المرء إلى فيديوهات "داعش"، يجدها تغلب عليها فكرة واحدة، حيث تسعى جماعة "داعش" يائسة إلى أن تكون ندّا لخصوم أقوى منها وأقدر بلا حدود. فصورها التعبيرية لا تُعنى إلا بالترويج لمشاعر الفاعلية بين مقاتليها، وغالبا ما يكون هذا مصحوبا بمحاولة لإضعاف أحد رموز قوة معادية ما."داعش" لم يخترع ممارسة استغلال التاريخ كأداة، فصدام حسين عربد في رمزية الدولة البابلية، وشاه إيران سعى إلى ربط نفسه بتخت جمشيد وامبراطورية قوروش الكبير، وبنيتو موسيليني سعى إلى إعادة بناء أمجاد روما، وأتاتورك نقل عاصمة تركيا من حاضرة القسطنطينية إلى قلبها الأناضولي من أجل بلورة هوية تركية "أصيلة".لكن ما يفعله تنظيم "داعش" شيء مختلف، إذْ الأمر أشبه باعتماد أدولف هتلر على التاريخ الآري، وأحيانا اختراعه هذا التاريخ، لإلهام مجتمع حديث وتوجيهه. القاسم المشترك بين كلا المشروعين هو الجمع المشبوب بالحماس بين رؤية اجتماعية يوطوبية ورؤية دنيوية تآمرية؛ بمعنى مجتمع عالق بلا فكاك في معركة بلا نهاية ضد أعداء لا حصر لهم. فالرؤية اليوطوبية تلهم، والأعداء يساعدون على الحفاظ على التضامن، والتاريخ هو الرباط الذي يمسك الاثنين معا.لكن ما تتكشف فصوله أمامنا هنا هو صنف معين من التاريخ، فالتاريخ الحقيقي فوضوي ومشوش ومليء بالالتباس، ودروسه يصعب على المرء أن يستنبطها إن لم يكن يستحيل. وأما التاريخ الذي تروج له هذه الجماعات فهو تاريخ مختلف. إنه تاريخ سلس يتضمن هدفا أخلاقيا واضحا وعدوا واضحا. وهو لا يُضفي الشرعية على أتباعه فحسب، بل يصلهم بحقيقة أبدية. تستخدم الجماعات هذا الصنف من التاريخ للتشبث بالخلود. وتناقش الأكاديمية سفيلتانا بويم في كتابها الذي يحمل عنوان "مستقبل الحنين إلى الماضي" The Future of Nostalgia كيف يمكن أن يسمح التاريخ بتحويل "الفناء إلى خلود". فالأفعال العادية يمكن أن تُضفَى عليها هالة من القدسية لأنها مشربة بروح الأجيال الضائعة. وكل جيل يكافح ليبقى مخلصاً لأسلافه قدر إخلاص الجيل الذي سبقه، وذلك على الرغم من إغراءات الابتداع والحداثة.بعض هذه الموروثات له جذور سطحية أكثر مما قد يظن المرء، فالمؤرخان إريك هوبزباوم وتيرينس رينجر جمعا منذ أكثر من ثلاثة عقود مضت سلسلة من المحاولات المدهشة التي جرت في القرن التاسع عشر لنسج تقاليد حديثة من خيوط الشواهد التاريخية. ولعل المثال الألمع والأبرز، هو المجهود الفيكتوري لإنشاء ثقافة اسكتلندية موحدة مفعمة بالتنورات. كانت الحقيقة أقرب إلى فوضى ضلع فيها تجار أقمشة وحسٌّ متصاعد بالقومية الاسكتلندية.إن أتباع داعش منخرطون في فعل اختراعي فريد، ساعين من وراء ذلك إلى إلباس نظام حكمهم الحديث أثوابا قديمة. فهم يؤكدون على أبدية ما يدّعون أنها تقاليد قديمة ومقدسة وعلى صلاحيتها لكل الأزمان، ويوقعون عقاباً قاسياً بمن ينحرفون عن تلك التقاليد. "داعش" في الحقيقة هي حركة حديثة بالكلية تسعى إلى أن تكون قديمة. والأمر أشبه ما يكون بأكشاك التصوير التي نراها في الأماكن السياحية وتُنتج صورا فوتوغرافية عتيقة لأشخاص معاصرين بملابس تاريخية، وتجاهُلها للحاضر جزء من جاذبيتها. كما أن أتباعها لا يعيدون خلق مجتمع مقدس من القرن السابع قوامه المؤمنون الأتقياء، بل يحشدون المحرومين والساخطين إلى وطن مختلق يكافح لتوفير اليقين والحميمية والتمكين لسكان لا يشعرون إلا بأقل القليل من أي من هذه الأشياء.لا طائل من وراء الإكثار من انتقاد تشويهاتهم للتاريخ، التي هي أكثر من أن يتسع المقام لذكرها. بدلا من ذلك يمكن القول إن المضحك هو استخدامهم الجاد للتاريخ أصلا. فالجماعة حديثة تماما ومبتدعة تماما. وهي هدّامة تماما على نحو ما تصبو إليه. ولا ينبغي أن نمجّد أتباعها لصلتهم المدعاة بالتاريخ.ينبغي عدم وقوع الحكومات الغربية وحلفائها في الشرق الأوسط في شرك رؤية "داعش" وأمثالها كجماعات معادية للحداثة، بل ينبغي عليها بدلا من ذلك أن تسلط الضوء على مدى حداثة هذه الجماعات بحق، وإلى أي مدى هي انتقائية في قراءاتها للتاريخ. فهي لا ترشد أتباعها إلى العودة إلى درب التقاليد المألوف، بل تشق بدلا من ذلك طريقا جديدا قوامه المواجهة مع سائر العالم.وبعد أن جردنا هذه الجماعات من ثيابها التاريخية، يمكننا أن نراها على حقيقتها، فهي جماعات الغاضبين والضعفاء الذين يقتاتون من هم أضعف منهم حتى.يقول الباحث الأمريكي جون ألترمان: "هناك مجد نجده في الإسلام، لكننا لا نجد هذا المجد في التنظيم".التاريخ المختصر لداعشبدأ تاريخ داعش قبل فتحها الموصل في عام 2014 بزمن طويل، وإن شئت الدقة فقبل ذلك بعقديْن من الزمن. في أحلك أيام عملية حرية العراق، برز إرهابي عنيف هو أبو مصعب الزرقاوي الملقب بـ"شيخ السفاحين". بحلول عام 2005، كان الزرقاوي، المولود في الأردن، لديه بالفعل سيرة ذاتية تستحق الإعجاب. فمن "إنجازات" الزرقاوي أنه ساعد على تأسيس جماعة جهادية في بلده الأم في أوائل التسعينيات. وبحلول عام 2002، كان يعمل في العراق، وبحلول عام 2003، كان يقود جماعة تسمى "جماعة التوحيد والجهاد". وفي عام 2004، انحاز بجماعته إلى صف تنظيم القاعدة. وبهذا الانحياز، غيّر اسم الجماعة إلى "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين".بدءا من ذلك التاريخ، شنت "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" حملة دعائية متطورة، فكانت تنشر النصوص والصور ومقاطع الفيديو الملائمة للبث على الإنترنت والمنتَجة ببراعة شديدة، حيث كانت تصوّر الهجمات من زوايا متعددة. وعلى الرغم من تركيز الجماعة على العراق، إلا أنها زاولت أنشطة وراء حدوده. فعلى سبيل المثال، في أغسطس 2005 أطلقت "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" صواريخ على سفينتيْن حربيتيْن أمريكيتيْن في ميناء العقبة الأردني. وبعد ذلك بثلاثة أشهر، نفذت تفجيرات متزامنة ضد ثلاثة فنادق تحمل علامة تجارية أمريكية في عمّان. كما كانت لدى الزرقاوي أيضاً شبكة في أوروبا زاولت نشاطها منذ عام 2002 على الأقل، ولم تكن تكتفي بأن تحرض على شن هجمات في أوروبا، ناهيك عن التخطيط لذلك، بل كانت تستقطب أيضاً أوروبيين للسفر إلى العراق لتنفيذ هجمات انتحارية.أسفرت عملية نفذها التحالف في يونيو 2006 عن مقتل الزرقاوي، لكن سرعان ما حل قائدان جديدان محله. وتواصل تدفق المقاتلين الأجانب، حيث دخل العراق عبر سوريا 700 مقاتل على الأقل فيما بين أغسطس 2006 وأغسطس 2007، جاء من بينهم 237 من المملكة العربية السعودية، و111 من ليبيا، وأكثر من 40 من كل من سوريا واليمن والجزائر. وفي أكتوبر 2006، أعلن التنظيم نفسه دولة العراق الإسلامية، مع تولي أبو عمر البغدادي منصب أميرها وأبو أيوب المصري منصب وزير حربها. كان هذا الإعلان بعيداً عن كونه محاولة محلية لحشد التأييد. ففي خطاب أُرسل في 2005 إلى الزرقاوي، قال أيمن الظواهري، الرجل الثاني في شبكة "القاعدة" الأم (وزعيمها بعد موت أسامة بن لادن): إن هدف الجهاديين في العراق ينبغي ألا يكون مجرد طرد الأمريكيين بل إقامة دولة إسلامية. وفي شريط فيديو مدته 95 دقيقة نشر في عام 2007، دافع عن "دولة العراق الإسلامية" وقال: إنها باكورة إقامة الخلافة التي ستعيد الحكم الإسلامي إلى المنطقة ككل. علاوة على ذلك فهناك خطاب مؤرخ في 6 مارس 2008 من الظواهري إلى أبو عمر البغدادي نقل نصائح من بن لادن بشأن سبل تحسين دولة العراق الإسلامية.خضعت دولة العراق الإسلامية لضغط عسكري شديد قرب الوقت الذي أعلنت فيه، وأسفرت عملية بقيادة الولايات المتحدة عن مقتل كل من البغدادي والمصري في 2010. لكن من جديد، برز قائد جديد، وهو أبو بكر البغداداي، وهو ليس من مخضرمي دولة العراق الإسلامية فحسب، بل أيضاً من مخضرمي أحد السجون التي كانت تشرف عليها القوات الأمريكية في العراق أثناء عملية حرية العراق.ومع تصاعد وتيرة الحرب الأهلية السورية في 2011، أنشأ البغدادي جماعة جديدة هناك، ممتنعاً عن إعلان أي انتماء لها بين الجماعتين. لكن الاقتتال بين الجماعات العراقية والسورية اشتد، وفي عام 2012 أنشأ البغدادي وجودا صريحا في سوريا وغير اسم الجماعة إلى داعش في العراق وسوريا".في أوائل عام 2014، تبرأت "القاعدة" رسميا من كل صلاتها بداعش في العراق وسوريا". وبعد فتح الموصل في يونيو 2014، غير البغدادي اسم الجماعة إلى داعش وأعلن نفسه خليفة للمسلمين كافة.تشير كمية المعلومات الكبيرة المتاحة علناً عن الجماعة إلى أن انبعاث داعش في 2014، وخصوصاً طرقها وأهدافها، ما كان ينبغي أن يفاجئنا، على الرغم من أن قوة هذا الانبعاث ونطاقه كانا صادمين بحق. أما الآن وقد انبعث تنظيم "داعش"، فإن إلقاء نظرة ثانية على ما كان معروفاً يمكنه أن يتمخض عن رؤى جديدة تطلعنا على مواطن ضعفها وتهدينا في محاربتها وتحذّرنا من مدى الصعوبة التي سيكون عليها ذلك. كما أن إلقاء هذه النظرة الثانية يشير إلى أنه حتى لو أُعلنت هزيمة "داعش"، فإن الولايات المتحدة والعراق وحلفاءهما سيستفيدون من توجيه الاهتمام والتحليل للجماعة على المدى البعيد؛ فداعش لم تُثْبت مرونتها وقدرتها على الصمود فحسب، بل أثبتت قدرتها على التجدد أيضا.