خالد أحمد اليوسف

فحم أبيض

في مقهى جورين العتيق سحب تتراكم شيئاً فشيئا، تتمدد أكثر فأكثر حتى غطت سماءنا وآفاقها المظلمة، لم ُتمطر لم ترعد أو تبرق أو تزمجر، يزيد تراكمها فيزيد تمددها وانخفاضها حتى وصلت إلى الأرض، اختلطت بنا وبكل حاسة اتصلت بها، بدأت أمطارها بالهمس والسكينة، كان المطر يتطاير من كل صوب واتجاه، فخالف عادته بالنزول من الأعلى، شعرنا ببلله المكثف، ورائحته المميزة، وسكرته الفاترة، وتحليقه الفاتن، سحاب ليس كالسحب المشتهاة من الأرض والنبات والحياة، سحاب لنا وليس للآخرين، ضج منه أحدنا وهو من الآخرين!!، أحسست بضجره ونحن ننفث ما امتلأت به صدورنا المدخنة، ويزيد تأففا من حركة النادل وهو يدور بعربته ملبياً الطلبات، ويمتعض وجهه لسماع ثورة فتحها الهائج، نراه انتصاراً على ذواتنا ويراه خيبة وسقوطاً ويصفنا بالهاربين من الواقع، نحتد في حوارنا وتعلو أصواتنا، ثم يلتفت إلينا متبرما مستفهما: - ما الذي يضحككم؟، ألا تخجلون من أنفسكم؟ من شواربكم ومن بياض عوارضكم؟؟، لكن الملامة علي وقد رضيت بهذا المكان؟؟! ونزيد ضحكاً من كلامه، وحينما تصدح أم كلثوم بأغانيها الخالدة نشنف المكان بآهاتنا وتصفيقنا، ورؤوسنا تتمايل طرباً لها وللسحاب الممتزج بدمائنا، لكن طربي انقبض في داخلي حينما التقت عيني عينيه وشعرت بحسرته تستغيث بي .... آه.. ثم آه منكم ومن غيكم، أنتم في قمة متعتكم وأنا في تعاسة وضيق، أنتم في استرخاء من أعصابكم وأنا في شدة وكر وفر معها، أنتم تهدرون الوقت والصحة والعمر وأنا في حسرة على فقدان كل هذا، أنتم تجلبون الشيطان لمؤانسته وأنا أكرر الاستعاذة منه ألف مرة ومرة!، آه.. ثم آه منكم!! اقتربت منه قليلاً وهمست بأذنه.. أقسم بالله أني أحس بتأففك وضجرك ومللك.. لكن لا عليك.. سنخرج الآن!! فقط عليك الاحتمال قليلاً وسنخرج دون رجعة!!. ثم دنوت منه أكثر وأطلقت زفراتي.. أتدري ما هو الفرق بيننا.. أنك تشرب الشاي كثيراً ونحن نشرب عصائر الشعير المعطر، أنت لك تذوقك الخاص ونحن لنا مذاق يُحلق مع السحاب.. حتى غدونا في عباب السحاب..!!، نحن السحاب الفارغ من مائه، نحن الماء المختلط بالأدخنة والتلوث وزفرات الحياة!! بعد أن انفض سامرنا وانجلى سحابنا وكفكف المطر دموعه، انتبهنا وقد عاد النظر إلى صوابه، وانكشفنا بعد أن قرأ سطورنا، وولى هارباً إلى خارج السماء، لحقنا به بشغف وتوق؛ لمعرفة حاله، كان واقفاً في الخارج إزاء شبابيك العرض الخاصة بالكتب الجديدة، التفتنا سوياً إلى بعض والدهشة تعلو وجوهنا من غير حديث أو حوار .