رحلتي مع الدراسات القرآنية 3
(7) أن تتأمل .. د. محمد محمد أبو موسى:في قاعات الدرس لم يمر بي ولم تر عيني مثله, هو الأبلغ أثرا والأعمق فهما, مجالسته ساعة خير وأنفع من قراءة كتب في مثل ما تكلم فيه, من أول جلوسك معه تدرك أن عنده من العلم ما ليس في كتاب, محاضرته بستان كل ثمرة فيه أجمل من أختها.علمه البلاغة, بفهم دقيق رفيع, وبلسان فصيح بليغ, لا تدري من أيهما تعجب : جمال ما يقول من المعاني, أم جمال الألفاظ التي يشرح بها تلك المعاني, فصاحته لا ترى مثلها إلا في كتاب, أو غادر من يحسنها تحت التراب.علمنا العقل والتأمل والغوص على الحقائق, كان يكرر علينا دائما : "سبيل الوقوف على شرف الكلام أن تتأمل", ما تعلمته من عقله أكثر بكثير مما تعلمته من علمه.كنت أجد في محاضرته لونا غريبا من لذة العلم, وتذوق المعرفة, وأسرح بخيالي كثيرا فيما يقول:في إحدى المحاضرات أشار إليّ أن أقرأ من الكتاب, فقرأت بشغف واهتمام, وكأني ألتهم الكتاب, وصرت في تناغم مع الكلام وشبه ترنم بالشعر الذي فيه, وحين قرأت أبياتا من الشعر استوقفني بعدها, وقال لي مباشرة : أنت شاعر يا نايف، فتفاجأت بالسؤال وأغلق علي ولم أستطع الجواب, فأعاد علي برفق: هل تكتب الشعر؟ فقلت: نعم، فقال: عرفت ذلك من قراءتك الشعر, وهكذا يقرأ الشعر، وهذه شهادة أعتز بها. فقد كان شيخنا بعيد الرضا, وقلما يثني على أحد, بل كان يشتمنا شتما مهذبا فيقول: القرآن الكريم لا يفتح أبوابه للنصابين والدجالين، وربما قال لبعض الطلاب : يا أحمق، أو قال لآخر : انت فاكر انك فاهم حاجة! أو قال لثالث : مش لازم تكون عالم!.وفي آخر العام الدراسي ودعنا بتأثر ظاهر، وقال : أخشى أن يحبط الله عملي ويبطل ثوابي بسبب ما قلته من الشتائم أحياناً. فقلت كلمة ما رأيته طرب لمثلها أبدا, قلت له: شتمك لنا أحبّ إلينا من مدحك، فقال: ربنا يفتح عليك. وابتسم ابتسامة الرضا، وودعنا، ومن جميل ما حفظته عنه: - لن تكون في هذه الدنيا شيئا حتى تكون في نفسك لا شيء.- لا يعينكم على ذوق العربية إلا العربية نفسها, ولا يقوي اللسان إلا حفظ مثل هذا الكلام شعر العرب.- التفسير تحليل لغة, والأدب تحليل لغة كذلك.- ليس أجل من العلم إلا أن نعلم كيف كان علماؤنا - رحمهم الله - يبنون هذا العلم.- وجدت أن السور التي تفتتح بـ "يا أيها الذين آمنوا" تتكرر فيها النداءات.- السياق هو الأصل الذي تتولد فيه وبه المعاني, لكن مراقبة السياق تحتاج منك إلى مزيد من اليقظة, وما لم تكن مستعدا لذلك فأرض الله واسعة.- كتب المتشابه مؤسسة كلها على السياق.- مكتبات الأثرياء تبني أمة, لكن عقل صاحبها أخلى من فؤاد أم موسى.- العلم في فطرتك فاستمع إليه هناك, وإنما العالم الذي يدلك على نبع المعرفةِ الذي بين جنبيك.- ستبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة حب يوم تبلى السرائررفع الله قدرك أستاذنا, وغفر لك, وأحسن جزاءك على ما أحسنت.