الصيرفة الإسلامية عالميا
لعل من الإنجازات البارزة التي حققتها مجموعة الأعمال التابعة لمجموعة العشرين اعتماد قمة العشرين التي عقدت بتركيا في نوفمبر الماضي في بيانها الختامي التمويل الإسلامي كإحدى القنوات التمويلية العالمية في تحقيق التنمية المستدامة، ما يعني الاعتراف بدور الصيرفة الإسلامية عالمياً.ويشهد التمويل الإسلامي حاليا مراحل متقدمة كواحد من فئات الأصول الأسرع نموا في العالم. وعلى الرغم من استمرار الهزات الناجمة عن الأزمة المالية العالمية، فان الصناعة المصرفية الإسلامية آخذة بالتوسع في العديد من الأسواق الناشئة وإدخال معايير جديدة من شأنها أن تساعد في تطوير المنتجات وجذب المستثمرين.ان مقدرة الصناعة المصرفية الإسلامية على استيعاب صدمات الأزمات المالية بصورة أفضل من المؤسسات المالية التقليدية حظي باهتمام ملحوظ، بما في ذلك من قبل الأسواق غير الأساسية للصناعة المصرفية الإسلامية في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية. لذا، يمكننا أن نقول إن الإنجاز الأبرز في صناعة الصيرفة والتمويل الإسلامية على مدى العقدين الماضيين هو عولمة الصناعة المصرفية الإسلامية إذا صح التعبير، وبمعنى آخر الانتشار العالمي للصناعة كبديل عن التمويل التقليدي في جميع أرجاء المعمورة.ان النجاح الذي حققته الصناعة المصرفية الإسلامية يكمن في أهدافها الإستراتيجية الشاملة، والتي تتمحور حول ثلاث ركائز رئيسية هي: يجب أن تكون الأعمال التي تتعامل فيها محللة شرعا، وطريقة التمويل المستخدمة يجب أن تتوافق مع متطلبات الشريعة الإسلامية وأن الغرض النهائي من التمويل يجب أن يخدم على الأقل واحدا أو أكثر من المسؤوليات الاجتماعية، على سبيل المثال، زيادة الدخل وخلق فرص العمل، والادخار.. إلخ.والهدف النهائي للنظام الإسلامي هو بناء «نظام مالي متكامل ومسئول اجتماعيا» والذي استفاد على مدى العقدين الماضيين من تنامي شكله ومحتواه الاجتماعيين بكونه طريقا آمنا وأكثر أخلاقية للصيرفة، في الوقت الذي كان النظام المصرفي التقليدي يعاني من الأزمات المالية والاقتصادية. ومنذ اندلاع الأزمة العالمية عام 2008، وفي مقارنة بين النظام المالي الإسلامي والنظام المالي الرأسمالي اعترف خبراء البنك الدولي بنجاح البنوك الإسلامية في مواجهة الأزمة العالمية بعكس البنوك الأمريكية والأوروبية الكبرى وهو دليل على سلامة المبادئ التي تقوم عليها أنشطة البنوك الإسلامية خاصة بعد بروز تجاوزات في إطلاق العنان للرأسمالية. غير أن هؤلاء الخبراء رفضوا أن يكون الحل هو تفكيك الرأسمالية، التي أدت إلى أسرع التطورات الاقتصادية في تاريخ الاقتصاد، كما يقولون، وإنما المطلوب هو إصلاح الأنظمة الرقابية ولاسيما في الأسواق المالية والتي تسمح بحدوث تحمل مفرط للمخاطر.وواضح من مناقشات اجتماعات الدول العشرين أن الكثير من الدول الأعضاء ومن بينهم المملكة العربية السعودية يطالبون بإصلاحات جذرية في النظام المالي العالمي، لكي يكون أكثر عدالة وشفافية وبعيدا عن المضاربات وقريبا من الاستثمار الحقيقي، وهي نفس المبادئ التي تقوم عليها أنشطة البنوك الإسلامية. وعلى الرغم من أن رئاسة قمة مجموعة العشرين انتقلت إلى الصين، فان المؤسسات الاقتصادية الإسلامية سوف تسعى لتعزيز هذا الإنجاز المهم وتحقيق آليات لدعم التمويل الإسلامي على المستوى العالمي، وبما يحقق أوسع انتشار واعتراف بهذه الصناعة ويعزز دورها في تحقيق أهداف التنمية العالمية. ويرى خبراء أن الصين لن تكون أقل حماسة في تقديم الدعم لجهود تعزيز دور الصناعة المصرفية الإسلامية عالمياً، خصوصاً ان الصين تملك علاقات اقتصادية قوية ومتطورة مع الدول العربية بدلالة النمو السريع في حجم المبادلات التجارية بين الجانبين خلال السنوات الماضية إذ حققت طفرات بلغت 251 مليار دولار عام 2014. وتوسعت مجالات التعاون بين الصين والبلدان العربية، فلم تعد تقتصر على النفط بل باتت تمتد إلى تطوير المواد الحديثة وتجارة منتجات الطاقة المتجددة والجديدة وبناء الموانئ والسكك الحديدية والشبكة الكهربائية وغيرها كثير. وباتت الدول العربية تحتل حالياً المرتبة السابعة في قائمة أبرز الشركاء التجاريين للصين، فيما أصبحت الصين ثاني أكبر شريك تجاري للدول العربية.على كل، إن هذا الانتشار والنجاح للصيرفة والتمويل الإسلاميين يفرض تحديات جديدة أمام هذه الصناعة. فنحن لا نستطيع الحديث عن تعاظم دور التمويل الإسلامي دون وجود اقتصاد إسلامي بالمعنى السليم المتعارف عليه. فاقتصاديات كل دول العالم اليوم تقريبا، بما في ذلك اقتصاديات الدول الإسلامية، تقوم على مزيج من النظريات والفلسفات الاقتصادية. ويجب أن نفرق بين حجم منتجات تمويل الاقتصاد الإسلامي التي قدرها البعض بنحو 2.3 تريليون دولار وحجم الاقتصاد الإسلامي الذي يعني حجم القطاعات والأنشطة الاقتصادية التي تدارعلى أسس إسلامية صحيحة. وهذا الموضوع ليس بترف فكري كما يتراءى للوهلة الأولى. فالعلاقة المثلى المفترضة بين التمويل الإسلامي والاقتصاد الإسلامي تقوم على تحقيق الكفاءة في الجانبين وليس في جانب واحد. وفي ظل غياب اقتصاد إسلامي غير واضح المعالم والآليات، فان التمويل الإسلامي قد يذهب للمنتجات والمشاريع المتاحة. لكن هل هذه الأنشطة هي الأكثر كفاءة أو الأكثر قدرة على تعظيم الفائدة من التمويل الإسلامي من جهة وتعظيم المنفعة الاجتماعية من المنتجات والمشاريع الممولة من جهة أخرى. الجواب ليس بالضرورة بالإيجاب طالما أن قطاعا كبيرا من الأنشطة والقطاعات بما في ذلك في الدول الإسلامية لم تبلور بعد كيفية تلاقحها مع التمويل الإسلامي وظلت تغرد خارج السرب. وهنا أيضا تقع المسئوليات على الحكومات ومؤسسات البحث الأكاديمي لتحديد معالم ومعايير الاقتصاد الإسلامي وآليات تلاقح التمويل الإسلامي مع هذه الآليات والفرص المتاحة وفقا لقاعدة الأكثر منفعة اجتماعيا واقتصاديا مثل توفير الوظائف وزيادة الإنتاج وتحسين البيئة وإلى آخره.وهذه تقتضي بدورها قيام مؤسسات القرار المعنية بتنفيذ وتطوير الأنشطة والقطاعات الإسلامية بالالتزام بالرشد والحوكمة والمسؤولية الاجتماعية وإدارة المخاطر وقياس العائد الاجتماعي والاقتصادي الحقيقي في عمليات صنع هذه القرارات، لأنها تمثل أسسًا جوهرية لتحقيق اقتصاد سليم ومعافى يأخذ صفة الاستدامة ويركز على التنمية البشرية والإنتاج وتمليك القدرات سواء بالمفهوم الحديث للتنمية الاقتصادية أو المفهوم الإسلامي للتنمية الاقتصادية.