عبدالله العثيمين يرحل والعروبة في أوج محنتها
غيبه الموت بهدوء يوم الثلاثاء الماضي، قاوم ما استطاع سبيلاً لحياة طوى الصبر فيها الكثير من الأحداث والرغبات، لكنه في النهاية آب إلى خالقه، حبوراً طيباً رضي الخاطر باسط الكف، وإن الله «طيب يحب الطيب».عاش المؤرخ عبدالله العثيمين (1936-2016) حياة مليئة بشغف المعرفة، هرب إلى التاريخ، كي لا يخسر الكثير، متاحشياً مواجهة كانت ممكنة جراء حبه للشعر ونقده، أحب العربية مُذ كان فتياً، لكنه لم يدرس اللغة العربية التي طالب اساتذتها في جامعة الملك عبدالعزيز بفصله، لذا كانت المسافة قصيرة جداً بين أن يكون عبدالله العثيمين متخصصاً في الأدب أو أن يكون مؤرخاً. وفي السيرة أن وعيه الذي وجه النقد إلى أساليب التدريس، هو السبب الذي ظل دائماً يزجه نحو سؤال المعرفة والحياة التي عاش فيها سيرة عاشق مفتون بحب مسقط رأسه بلده «عنيزة» من أرض نجد، حيث ديار العشاق الأوائل، وسيرة مؤرخ حذق أدرك حساب المسافات المعرفية مع السلطة، ولكنه ما باع ولا اشترى بعلمه وفي عنيزة أدركه الوجد والحب ومخاوف الفراق مدركا قول الشاعر امرئ القيس في عنيزة بقوله:تراءت لنا يوماً بسفح عنيزةوقد حان منها رحلة وقلوصكفاه التاريخ موعظة الدارس، والمعتبر. والتاريخ عبر وعلم بأحوال الأمم والرجال، ظلّ وفياً وحريصاً على التواصل مع الصداقات، وآخر مرة فتحت صندوق البريد قبل شهر كانت بطاقته المعهودة قد حملت توقيعه الأخير الذي قد يأتي، ولا تأتي بعد غيابه بطاقات الحب والمودة، لكنها ستظل حاضرة كلما تذكرناه وفتحنا كتبه أو طالعنا تاريخ المملكة العربية السعودية الذي عدّ العثيمين من راود الكتابة والتحقيق في مصادره.سعودي عروبي بثقافة إسلامية راسخة، له سيرة المؤرخ المحايد البعيد كل البعد عن شطط الأفكار، العامل في التحقيق والتنقيب التاريخي، والعامل في مؤسسات الدولة البحثية الأكاديمية دونما أن يبعده ذلك عن الحسابات الدقيقة عما يؤول أو يكتب، وهو المحافظ على سلامة الروح القومية التي أشعلتها فيه هبات الفكر الحر التي امتلكها منذ منتصف الخمسينيات من القرن المنصرم. فكان من الذين اجتهدوا وظلوا يرون إمكانية القول بهوية قومية لا تتقاطع مع الهوية الوطنية للمثقف. ظلت حياة عبدالله العثيمين قليلة البوح، مستترة، لكنها بسيطة، كما البداوة المتحضرة التي ملكها، وظلت تحكمه، وهي بداوة كان ينفي بقاءها في سلوكه منذ غادرها إلى حياة الحضر، ومع أن الحياة الأكاديمية ملكته أكثر من أي حياة أخرى إلا أنه كان قادراً على أن يلتمس له لحظات من التفرد والهروب فيجد في الشام ومصر ما يفتح قرائح الشعر.ظلّ حريصاً على أن يبدو أكاديمياً محترفاً، مجللاً بصرامة مليئة بذاكرة متعددة الوجوه والصور لحياة عريضة ومليئة بسِفرِ المودات وتنوع الاهتمامات، ابتداء من حياة الزراعة البسيطة ثم التجارة والتعليم في المعاهد الدينية ثم العمل في جامعة الملك سعود ومن ثم الابتعاث إلى الدراسة في جامعة ادنبره، ومن بعدها التخصص في تاريخ المملكة العربية السعودية بدون قصد، وهو المتتلمذ في دراسته على كبير المستشرقين «مونتغري واط» صاحب كتابي «محمد في مكة» و«محمد في المدينة». الراحل الشاعر الأكاديمي والأمين العام لأرفع الجوائز العربية وهي جائزة الملك فيصل، وعضو مجلس الشورى، كان عاشقاً محباً للحياة، يرى في الشعر وسيلة لاكتساب معاني التفرد، وهو المثقف العارف لمعنى المسافة بين سلطان العلم والسلطة، فكان لذلك محلّ الثقة في كتابة تاريخ دولته وكان أهم أعماله كتاب «تاريخ المملكة» الذي صدر منه نحو اثنتي عشرة طبعة وترجم لعدة لغات.كتب عبدالله العثيمين عن الإمام محمد بن عبدالوهاب واختص به وبدراسة عصره وثقافته، لكنه ما لبث أن اتجه نحو تاريخ المملكة العربية السعودية مؤلفاً ومحققاً ومترجماً، ويحسب له تناوله لمساحات تاريخية بدت صعبة التناول كما في كتابته عن تاريخ آل رشيد، وهو المكلف بتأليف عدة كتب للتعليم العام في السعودية.درس في كتاب قرية عنيزة، «في مدرسة تقرئ القرآن فقط وهي اشبه بالكتاتيب، ولما أكملت انتقلت إلى مدرسة تجمع بين الكتاتيب والتعليم الحكومي أي أنها تدرس القرآن والخط والحساب والأناشيد».كان والده يعمل بالتجارة البسيطة، وله دكان في الرياض وعاش والده أعزب مع شقيقه في الرياض، وكان من عادتهم آنذاك عدم أخذ النساء إلى المدن ويقول في حوار سابق معه: «وكانت العادة أن لا تسافر المرأة مع الرجل من بلدتها كي لا تنفصل عن أهلها وأقاربها».وجود الأب مع إخوته في الرياض شحذ العثيمين إليهم فانتقل ليساعدهم في أعمال الدكان، ثم أصيب بمرض «ذات الجنب» أو الالتهاب الرئوي، فأتى والده بطبيب شعبي ليعالجه، لكن ذات الجنب جعله يفكر بالعودة إلى عنيزة ليعود للعمل مع عمه في مزرعة تبعد عن البلدة 8كم، لكن والده شق عليه بعد الابن فدعاه مجدداً للرياض ليدخل المدرسة الحكومية، فتريث قليلا ومن غير رغبة ذهب، ليتم اختباره ويحسن الخط فيندفع المدير لتسجيله في الصف الرابع، ثم انهى مرحلة الابتدائية وصدف ان افتتح المعهد العلمي الشرعي فرعا له في عنيزة فعاد العثيمين إلى قريته مجدداً، وهناك اكمل دراسته وبدأ نشاطه الادبي، محباً للشعر، الذي اشعل عنده الروح القومية اواسط الخسمينيات، وفي عام 1954 كون العثيمين أول تجربة انتخابية للطلاب التي هيأت العمل لنادي الشعر والذي بدأ ينشر القصائد عبر صحيفة المعهد.ظلت عنيزة في قلب الراحل، وظلت العروبة زاده الذي تعلق فيه مبكرا، كان يحب الذهاب لمصر لكنه لم يبتعث، فدرس في جامعة الملك سعو أواخر الخمسينيات وفيها واجه الفصل على خلفية اختلافه مع احد اساتذة اللغة العربية الذي لا يحب طه حسين، فكتب العثيمين مقالة ناقدة في صحيفة اليمامة منتقدا طرائق التدريس، فاعتبره الاساتذة متهجما على الجامعة وقرر مجلس الجامعة فصله ثم جرت وساطات لاعاته تدخل فيها وزير التجارة صلاح جمجوم، واعيد واستمر قرار الفصل ثلاثة أسابيع، ليتخرج من الجامعة ثم الابتعاث إلى جامعة أدنبره ويبدأ رحلة طويلة مع التاريخ الحديث للمملكة العربية السعودية استمرت رحلته حتى زمن قريب قبيل مرضه.جسدّ العثيمين شخصية الأكاديمي السعودي المرن، المنفتح على الثقافات غير المتصلب برأيه، الشغوف بالحياة والرضا بالمقادير، ظلّ وفيا لمسقط الرأس ومحباً للدولة والأمة في زمن عروبتها الذي غادره والعروبة فيه في أوج تعبها.