د. محمد الخالدي

هل اللغة هي مربط الفكر؟ (3-3)

وَلَكِنَّ الفَتى العَرَبيَّ فِيهَا... غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللِّسَانِ«أبو الطيب المتنبي»اللغة تمثل المكوِّن الأساس للهوية والسيادة القومية التي لا تتوقف عند حدود الاستقلال السياسي والاقتصادي، ووضعِ الدساتير، وترسيم الحدود، إذ لا بدَّ من وجود الهوية الثقافية - اللغوية التي تمثل التعبير الرمزي والفكري لهذا الاستقلال. وعبر التاريخ، فإن اللغة كانت هي العامل الأساس في تحديد مدى تحرر الدول أو رضوخها للاحتلال. ونظرا لأن اللغة معجونة مع عقل، وروح، وهوية، وفكر أبنائها الأصلاء الذين يُولدون من رحمها، فإن ذلك جعل دول الاحتلال تركز على اللغة، والهوية التي تمثلها اللغة في المجتمعات التي يقع عليها الاحتلال.لقد فهم المحتلون الدور الأساس الذي تلعبه اللغة في عملية إعادة تسمية الأشياء، بدءًا بكلمة «الاحتلال» الذي سمّوه «استعمارا»، وجردوا اللغة من معانيها لإدامة الشعور بالتبعية، وعدم الكفاءة لدى أصحاب الأرض، والتسليم بتفوق المحتل ولغته. والاحتلال اليوم ليس بالضرورة أن يكون مباشرا ومن خلال الجيوش والتواجد على الأرض. فالمحتل الجديد يستطيع أن ينقل أفكاره ومعتقداته وعاداته من خلال اللغة بوصفها أداة ثقافية، بطريقة غير مرئية أو محسوسة، ويساعده على ذلك وجود العالم الرقمي الذي من خلاله ينقل لنا كل ما يشاء.لقرون قليلة مضت كان عدد من يتحدث اللغة الإنجليزية يتراوح بين خمسة إلى سبعة ملايين شخص فقط. وكانت على شكل لهجات متعددة، محصورة في جزيرة صغيرة نسبيا ومعزولة عن الآخرين. أما اليوم، ونتيجة لاستخدام اللغة كوسيلة للهيمنة، فإن هناك أكثر من 750 مليون شخص يتحدثون الإنجليزية في مختلف أنحاء العالم، وهناك أكثر من 60 دولة، أصبحت اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية أو اللغة السائدة فيها.وقد أشار كثير من المفكرين، أمثال إدوارد سعيد، الذين درسوا ما بعد الفترة الاحتلالية (الكولونية)، إلى النهج المنحاز للسيادة اللغوية وأثرها البالغ في بسط الهيمنة على الشعوب. على سبيل المثال، فإن تهميش اللغة الايرلندية وتحويل أسماء المناطق الجغرافية في ايرلندا إلى أسماء إنجليزية، سهَّل بقاء هيمنة الإنجليز على ايرلندا. وربما كان انتشار اللغة العربية في أقطار العالم الإسلامي هو العامل الحاسم في استمرار الحكم العربي لها لعدة قرون. كما كان فرض اللغة الفرنسية هو أهم الأسباب في بقاء احتلال فرنسا للجزائر مدة 130 عامًا. وفي الجانب الآخر، فإن اللغة هي سلاح المقاومة الأول ضد الابتلاع والهيمنة. وعلى هذا الأساس، فإن الدفاع عن الأوطان يبدأ بالدفاع عن اللغة. وفي ذلك يقول الحاكم الفرنسي في الجزائر، بمناسبة مرور مئة عام على احتلالها: «يجب أن نُزيل القرآن العربي من وجودهم... ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم، حتى ننتصر عليهم».واللغة ليس المقصود بها المخزون الكبير لكل الألفاظ والعبارات والصور اللفظية في لغة ما، فحسب، ولكن تظل هناك في كل مجتمع ضمن كيان اللغة الكبير، لغة مصغرة تستعمل في المدارس والإعلام وفي الشارع، تكون هي مصدر النتاج الفكري لذلك المجتمع. فاللغة التي ينشأ عليها الطفل ويتعلمها، ترسم طريقة إدراكه وتفكيره، فإن تدرب على استخدام لغة نظيفة، وديناميكية، وراقية، ومنطقية، ونقدية، فإن فكره سيكون في الغالب حيًّا ونظيفًا وراقيًا.ولكن إذا كانت اللغة التي يتلقاها الإنسان من خلال المنزل أو المجتمع أو المدرسة تحمل ثقافة إقصائية منتفخة بذاتها وتحشو العقول بمفردات الكراهية ونبذ الآخر، وتحرّم الفن وتقف موقفا معاديا من الأدب الإنساني، فإنه في النتيجة لن يتمخض عنها إلا فكر وثقافة مشوهة، تحملها رؤوس فارغة ونفوس متورمة. فاللغة التي ترتكز في مفاصلها على كل المفردات والتعابير التي تخدر العقل وتعتمد التلقين، تنتج فكرا لا علاقة له بالواقع أو العالم المحيط بالمجتمع. ونتيجة للتردي الواقع في الوضع العربي الآن، فإن اللغة اليوم تشهد تشويها ينعكس على فكر الناس وتوجهاتهم. ومن ضمن ذلك التشويه هو ظهور بعض المفردات والمسميات التي لا تتفق مع هويتنا وثقافتنا، وبالتالي مصالحنا. فلو احتلت فلسطين في أيامنا هذه، لربما لم نقل عبارة «فلسطين المحتلة». فبغداد احتلت احتلالًا سافرًا أمام أعين كل الناس، وعيّنت قوى الاحتلال فيها حكومة عميلة تكمل ما دمره الاحتلال، ولكن الناس يصفون ذلك بالعملية السياسية.ونُطلق على خليجنا العربي مجرد كلمة «الخليج»، ونجعل تلك الكلمة المبهمة اسما لبعض شوارعنا وصحفنا ومناطقنا، ثم نغضب عندما يتجرأ من يطالب باحتلاله. ونعشق أن نتباهى بأن لدينا أكبر وأضخم مشاريع وإنجازات ليست في الوطن العربي، ولا المشرق العربي ولا مغربه، ولكن في «الشرق الأوسط»، ولا أدري ما هو هذا الشرق الأوسط الذي جعلناه اسما جديدا لنا، وهو كلمة فُرضت علينا من الغرب لمحو هويتنا أولا، ولجعل الكيان الصهيوني دولة طبيعية تعيش بيننا وعلى أرضنا. فنحن عندما نحرف اللغة عن معانيها المرتبطة بهويتنا وثقافتنا، ونسمي الوطن العربي بالشرق الأوسط، ونسمي الإرهاب جهادا، والاحتلال نشرا للديمقراطية، ونشر الجهل تعليما، دون أن تعي العقول الحقيقة لتفرق بين هذا وذاك، فإننا نصبح كالببغاوات في ترديد تلك الكلمات والمصطلحات، وبالتالي تصبح عقولنا ضحايا وفرائس سهلة لمطلق تلك الكلمات بإيحاءاتها اللغوية المدمرة.