خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
لا شك أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف يخلق تدريجيا معطيات جديدة كليا في شكل ومسارات العلاقات الاقتصادية الخليجية البريطانية، وبعكس ما تكرست عليه أنماط العلاقة الاقتصادية بين الطرفين خلال العقود الماضية عندما كانت بريطانيا العظمى في أوج قوتها، وأفضت إلى خلل واضح في الميزانين التجاري والاستثماري لصالح بريطانيا، فإن الفرصة سانحة اليوم أمام دول المجلس لبناء علاقات اقتصادية أكثر توازنا تقوم على خدمة مصلحة ومنفعة جميع الأطراف.وفي المدى القصير، كان من الواضح بروز تأثيرات مختلطة للخروج البريطاني على اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي، فالمتضرر الأول كان الاستثمارات العقارية الخليجية في بريطانيا والتي تقدر بنحو 120 مليار جنيه استرليني، حيث تشير التوقعات إلى انخفاض قيمة العقار بنحو 20% مما يعني خسارة نحو 24 مليار جنيه. وهذا قد يثير مخاوف لدى البريطانيين من انخفاض معدل تدفق الاستثمارات الخليجية ما بين 25 و35% خلال المرحلة المقبلة بما في ذلك الاستثمار في أسواق المال التي انخفضت بدورها بنحو 10% أيضا.في المدى المنظور أيضا، فإن انخفاض قيمة الجنيه الاسترليني أمام الدولار الأمريكي سوف يسهم في خفض قيمة الواردات الخليجية من بريطانيا، ولكن في المقابل سوف يرفع قيمة الصادرات نتيجة ارتباط قيمة العملات الخليجية بالدولار، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا التطور إيجابيا لأنه يضعف الوضع التنافسي للصادرات الخليجية التي تتكون أغلبها من صادرات البتروكيماويات والنفط، ولكن قد يستفيد السياح الخليجيون هذا الموسم لدى زيارتهم المدن الانجليزية من انخفاض قيمة الاسترليني.وعلاوة على هذه التأثيرات المباشرة، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يتسبب في العديد من التقلبات والضغوطات على أنظمة أوروبا المالية وأسواق الأسهم فيها نظراً لحجم الشراكة التجارية المهمة بين الجانبين وما سيتسبب فيه ذلك الخروج من تباطؤ للنمو الاقتصادي في منطقة اليورو، وبالتالي ستتأثر آفاق نمو الاقتصاد العالمي وهو بدوره سوف يؤثر على توقعات تحسن سعر النفط الخليجي، خاصة أن التوقعات تشير كذلك إلى أن بريطانيا تشهد في فترة ما بعد الاستفتاء وما سيسودها من شكوك ومخاوف في التأثير على الثقة، ركوداً خلال النصف الثاني من العام 2016م وذلك وفق ما أشار إليه معهد التمويل الدولي.ومما يعقد مناخ الاستثمار أمام الاستثمار الخليجي هو أن خروج بريطانيا سوف يؤدي إلى ارتفاع المخاطر على الأصول البريطانية وارتفاع تكاليف التمويل (الفائدة) للبنوك البريطانية مبدئياً، إذ ارتفعت تكاليف التمويل للبنوك البريطانية بالدولار الأمريكي مطلع 2016م إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2013م إضافة إلى تأثر البنوك في حال خفض تصنيفها الائتماني.وإلى جانب التأثيرات الراهنة والمباشرة، فإن التأثيرات الأكبر والتي سوف تأخذ بعض الوقت لبروزها سوف تعتمد على جملة من القضايا أهمها التسويات التي سوف تتوصل إليها بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي بشأن وضعها الراهن مثل العمالة البريطانية في أوروبا وحرية المبادلات التجارية والاستثمارية والاتفاقيات الأخرى، فهذه التسويات جميعها سوف تسهم بفاعلية في صياغة الوضع الجديد للاقتصاد البريطاني، خاصة أن صادراته تعتمد بنسبة 50% في الوقت الحاضر على الأسواق الأوروبية، ومن ثم سوف تحدد احتياجات الاقتصاد خلال المرحلة المقبلة، وهذه الاحتياجات هي التي ستحرك المسؤولين البريطانيين.غير انه من الواضح أن البريطانيين، وكما يزعمون، سوف يكونون أكثر حرية في التحرك لعقد اتفاقيات تجارية مع دول العالم بعيدا عن القيود التي كانت تفرضها العضوية في الاتحاد الأوروبي، وبحكم العلاقات التاريخية والتقليدية بين بريطانيا ودول المجلس، فإن البريطانيين سوف يعطون أولية للتوصل إلى اتفاقية للتجارة الحرة مع دول المجلس، خاصة في ظل التعثر المزمن في مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين الدول الأوروبية ومجلس التعاون التي بدأت منذ عام 1988م وتم تعليقها في عام 2008م أي قبل نحو 8 سنوات. وعلى شاكلة الميزان التجاري مع الدول الأوروبية الذي يميل لصالح أوروبا بنحو 50 مليار يورو سنويا، فإن الميزان التجاري الخليجي أيضا يميل لصالح البريطانيين بنحو 15 مليار دولار سنويا.لذلك، وكما ذكرنا في بداية المقال، فإن على دول المجلس أن تستثمر الرغبة الجامحة لدى بريطانيا في التعويض عن الخسائر الأوروبية بفتح أسواق عالمية جديدة لها، وأن تعمل على تحسين شروط التجارة والاستثمار والتفاوض مع كل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة على حد سواء. وختاما لا بد من الإشارة إلى أن تأثر دول المجلس بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون متفاوتا بين دولة خليجية وأخرى، فعلى سبيل المثال بلغت قيمة الصادرات البريطانية إلى السعودية خلال العام الماضي 2015م نحو 7.8 مليار دولار، فيما وصلت قيمة الصادرات السعودية إلى بريطانيا نحو 2.66 مليار دولار. والملاحظة البارزة أن النفط لا يهيمن على الصادرات السعودية إلى بريطانيا، فخلال السنوات الخمس الماضية، كانت الصادرات غير النفطية تشكل نحو 61% من الصادرات السعودية، مثل الصناعات البلاستيكية والمعدنية بالإضافة إلى الكيميائيات. في المقابل تعتبر السيارات ومحركات الطائرات وقطع غيارها ومنصات الحفر العائمة أو الغاطسة من بين أبرز الصادرات البريطانية للسوق السعودية، ومثل هذه التركيبة السلعية في الصادرات والواردات ستجعل السعودية مستفيدا رئيسيا من اتفاقية التجارة الحرة في حال التوصل إليها.ولا تقتصر العلاقة بين الجانبين على الجوانب التجارية فقط، وتتجاوزها للسياحة والتعليم، فيدرس حاليا أكثر من 15 ألف طالب سعودي في الجامعات البريطانية، في حين تجاوز عدد الدارسين السعوديين خلال الأعوام العشرة الأخيرة 100 ألف دارس، فيما سافر نحو 144 ألف سائح سعودي إلى بريطانيا العام الماضي فقط، وأنفقوا أكثر من 580 مليون دولار، لذلك، فإن اتفاقية التجارة الحرة من شأنها أن تزيل العقبات أمام تجارة الخدمات وتسهم علاوة على نمو قطاعات السياحة والتعليم والاستشارات والمواصلات والاتصالات في زيادة نقل التكنولوجيا البريطانية للأسواق السعودية والخليجية.