ما لغز سكان الجزيرة؟
في أثناء الحرب العالمية الثانية قصفت الأساطيل الأمريكية جزيرة أوكيناوا اليابانية بأطنان من القنابل و نيران المدفعية لمدة ثلاثة أشهر دون توقف، استطاعت خلالها أن تذيب الصخور والكهوف والمغارات التي كانت الملجأ الوحيد للجنود اليابانيين والسكان الأصليين للجزيرة، وتمكنت من احتلال الجزيرة والقبض على من بقي على قيد الحياة من الجنود وأهل الجزيرة. و قد لاحظ علماء النفس والأنثربولوجيا باندهاش أن الجنود اليابانيين الأسرى الكوماندوز المنتقين بدقة والمدربين بعناية فائقة على خوض المعارك كانوا يعانون من اضطرابات وأمراض نفسية بالغة الخطورة رغم تلقيهم تدريبات مكثفة في مواجهة الصدمات والتعامل نفسيا مع الكوارث والحروب، وأن هذه الاضطرابات متدنية جدا عند سكان الجزيرة الأصليين غير المدربين. وللتوصل لتفسير أوضح أجري المزيد من الأبحاث والدراسات التي تبين بمقتضاها لأولئك العلماء أن انخفاض درجة الاضطرابات النفسية عند السكان الأصليين للجزيرة ناجم عن مناخ التنشئة الاجتماعية لسكان الجزيرة الأصليين، الذي يمنح الطفل حرية حركة واسعة جدا وتسامحا كبيرا فيما يتعلق باللعب و ضبط الإخراج وعملية الرضاعة الطبيعية ويترك حتى يسير على قدميه دون إكراه او إلحاح، فالأسلوب التربوي السائد بين سكان الجزيرة تنتفي فيه كل أشكال الإكراه والعنف والتوتر في حياة الطفل، مما جعل العلماء يثمنون عاليا مستوى الصحة النفسية العالية لسكان الجزيرة الأصليين وقدرتهم على مواجهة الرعب والخوف ولحظات الجحيم، ويعزونه بقوة لأسلوب التنشئة الاجتماعية الذي منحهم طاقة هائلة في مواجهة الصعاب وتحديات الوجود بثبات جأش وتماسك أعلى من الجنود اليابانيين الذين أعدوا لويلات الحرب ولمواجهة الجحيم.فالسمات الشخصية كالثقة بالنفس والقدرة على الانجاز وتأكيد الذات والميل للتعاون أو الاتكالية والشعور بالنقص والخوف من المغامرة وغيرها من السمات تتشكل حسب نمط التنشئة السائدة في المجتمع، فهي العملية التي يتم من خلالها تشكيل النظام القيمي الثقافي في الفرد وبناء السجل العصبي لسلوكه الحيوي، والمؤثر الأهم في بناء السمات الشخصية التي تتشكل فيها هوية الفرد.و أجمعت تجارب العلماء وتأملاتهم على أن الأسرة هي أمضى سلاح يعتمده المجتمع في عملية التنشئة الاجتماعية، وبناء شخصية الإنسان القادر على الفعل والمبادرة والإبداع، وفي رسم خصائص شخصيات الأفراد ولا سيما في السنوات الأولى من حياتهم.وبصورة عامة، فإن أساليب التنشئة الاجتماعية التسلطية تشوه بنية الشخصية وتكبح مسارات ابداعها، أما التنشئة الايجابية الداعمة فهي كصمام أمام مستقبلي للصحة النفسية، وكمربين مهتمين فإن لنا في تجربة جزيرة أوكيناوا رسائل تربوية عميقة لمن أراد أن يستقبل تلك الرسائل ويقرأ سطورها باهتمام.