العلمانية.. الخزي والفضيلة
لم يعد اعجاب المتأسلمين بعلمانية أردوغان خافيا، فقد كشفت مرحلة ما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في 15 يوليو الماضي حجم الاعجاب الذي يُكنه هؤلاء للعلمانية حين تقع في عين الرضا، وبشكل يشي كما لو أنهم جزء من تابعية العدالة والتنمية (AKP)، حيث اصطف الجميع للحديث من هنا ومن أماكن اصطيافهم هناك عن النظام الذي ألبسوه رغم كل علمانيته قفطان الخلافة وتاجها وصولجانها، فيما تنكروا لفتح الله غولن وهم الذين طالما انبهروا بفلسفته، وأشادوا بمدارسه ومعاهده ومؤسساته، وسجلوا فيها فيما سبق أعظم المدائح وخطبهم لا تزال موجودة على اليوتيوب وأسقطوه من ذاكرتهم منذ أن اتهمه أردوغان بالضلوع في الانقلاب، وهؤلاء لم يغيروا رأيهم بين عشية وضحاها بالعلمانية التي يشتمون بها خصومهم الفكريين في الداخل حد إخراجهم من الملة، وإنما يبدو لأن مذاقها في تركيا غير مذاقها هنا، فهي هناك تحت ظلال الخمائل، وفي المنتجعات الخضراء لها لذة حلم الخلافة الذي لا يزال يستولي على عقولهم، ويكاد ينز من بين مفرداتهم من حين لآخر، في حين أنها هنا زندقة وتجديف وخروج على الفطرة السليمة. نعم.. هنالك خلط كبير وفاضح في فهم مصطلح العلمانية، ولكن في أذهان العامة فقط ممن تقولب المصطلح في أذهانهم وفق تعريف الأفغاني بأنها (فصل الدين عن الدولة)، مما يعني أنها محاولة لإقصاء الدين عن الحياة العامة، في حين أن صاحب مصطلح العلمانية السياسي البريطاني جورج هوليوك يرى أنها فصل الدين عن السياسة، وعدم السماح للسياسة بالعبث به، وإتاحته لتمرير آراء سياسية محضة، ومن ثم فرضها على الناس باسم الله عز وجل، وهو ما قال به الفيلسوف العربي ابن رشد الملهم الحقيقي للنهضة الأوربية حين أشار إلى: (إن امتزاج الدين مع السياسة يولد الإلحاد)، لذلك فالحركة العلمانية لم تأت ضد الدين، وإنما جاءت كرد فعل لتوظيف الدين في السياسة كما يقول هوليوك، وذلك لمواجهة موجة الإلحاد التي حدثت في أوروبا نتيجة الاستبداد جراء خلط ما هو سياسي بما هو ديني، ومن ثم ارتكاب المظالم باسم الدين، ما دفع الكثيرين للإلحاد والتبرؤ من الكنيسة. وأثناء الثورة الفرنسية، وبعدما تمكن نابليون وتحت شعار العلمانية من تثبيت خطاه كإمبراطور لفرنسا، سرعان ما بادر بتوقيع مذكرة تفاهم مع بابا الفاتيكان مما أثار حفيظة معظم الثوار العلمانيين، الأمر الذي دعاه لأن يرتجل خطبته الشهيرة في البرلمان الفرنسي، والذي كان يضم صفوة المجتمع من النبلاء والأغنياء، وقال لهم في أبشع توظيف للدين لصالح السياسي: (الدين أيها السادة ضروري لحماية الأغنياء من الفقراء، فكيف ستمنع فقيرا طوى بطنه الجوع، وبجانبه غني أصابته التخمة ألا يقفز عليه ويسلبه ماله، دون أن تقنعه أنها مشيئة الله بأن يكون هنالك على الأرض أغنياء وفقراء، وأن موعد الفقراء الجنة) !. والسؤال المطروح هنا بعد هذه المكاييل المزدوجة في التعامل مع العلمانية هو: لماذا يُجرم الصحويون العلمانية كخزي وهي ليست أكثر من علمانية فكرية في الداخل، فيما هم يتغزلون بها كفضيلة عندما تكون هناك بين يدي أردوغان؟. فقط أحاول أن أفهم.