لا يوجد طريق مختصر
يبدو أن هناك لبسا في مفهوم الحرية لدى العديد من الناس على انها تعني الاستجابة الفورية للرغبات مهما كانت، لذلك يكرر الكثير من المراهقين دوما عبارة «أود أن أكون حرا». حيث يبدو لهم التحرر من الانضباط والمجاهدة أكثر متعة وراحة، ولكن إذا أخرجنا القطار عن قضبانه حتى يتحرر من مساره فماذا ستكون عاقبته؟ وإذا أمكن للمرء الإنسان أن يتمتع بقوانين مرور تمكنه من قيادة سيارته في أي اتجاه من الطريق، فهل يعتبر هذا زيادة في نصيبه من الحرية أم فوضى مميتة؟.تلد أنثى الزرافة واقفة، وفجأة يقع المولود الصغير على الأرض الصلبة بعد أن كان محاطا في رحم الأم الآمن، وما أن يلمس الأرض حتى تقوم الأم بالرجوع خطوات خلف صغيرها ثم تركله بشدة كي ينهض، لكن أرجله الصغيرة ما زالت ضعيفة ورخوة فيسقط مجددا فتعاود ركله، ويتكرر المشهد مرارا حتى يقف الصغير على رجليه ويبدأ في الحركة، فهل يقدح ذلك في أمومة الزرافة؟. تعلم الزرافة الأم أن الفرصة الوحيدة لنجاة صغيرها من الافتراس والموت تكمن في قدرته على النهوض مبكرا والحركة حتى ينجو كفريسة ولا يدركه الأعداء، فأحيانا يتعين على المرء أن يكون قاسيا حتى يكون حنونا، وليست كل الأدوية حلوة المذاق ولا تخلو الجراحة من الألم، ولا يعني ذلك الفرار من اللجوء إليها.إن الاستمتاع الكامل بكل ما يرغب فيه المرء لا يكفل له الحرية، وإن قيود الانضباط التي نعتقد أنها تجرنا إلى الضيق هي التي تصعد بنا في نهاية المطاف لآفاق جديدة أوسع رؤية. والأطفال الذين ينشئون في بيئة مفعمة بالود واحترام قيم الانضباط يكتسبون عادات حياة ناجحة، فحين ينشأ الطفل وهو يرى يوما بعد يوم أن والديه يتصرفان بطريقة منضبطة متسمة بالقدرة على التنظيم وتأجيل الإشباع فسينحو في صميمه للشعور بأن هذا هو الأسلوب الأمثل للعيش.يعمد الملايين بصورة يومية لمحاولة الهروب من الحرية بمحاولتهم تجنب الألم الناتج عن تحمل المسؤولية، ويقطع بعضُنا أشواطا في رحلة البحث عن وهم الطريق المختصر، وتشكل هذه النزعة لتجنب التحديات السبب الرئيسي لجميع الأمراض النفسية، ولن ينضج المرء إلا حين يعي أن الحرية ليست شيئا خارجيا يمكن تملكه، بل حالة من الوعي العميق عند الإنسان مفادها أنه مع كل ما يتخلى عنه هناك ما يفوقه بصورة كبيرة، وأن الراحة الحقيقية لا تأتي إلا بالانضباط ومغالبة الأهواء كمفتاح للفوز في الدارين حتى لا نخضع لما نشتهي بل نفعل أفضل ما يمكن فعله، وصدق قوله الكريم «وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى»، فلم يجعل السبيل للحرية الأبدية إلا في مخالفة الهوى.