كتب: عبدالوهاب أبو زيد

مفكر من الشرق لا يعترف إلا بحضارة الغرب

في البداية أعترف أن لدي موقفًا مسبقًا حول تجربة إبراهيم البليهي الثقافية في مجملها، وفيما يطرحه من آراء، والطريقة التي يطرحها بما فيها من حدة وثقة مطلقة لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها، وإن كنت لا أختلف معه كليًا بالطبع في كل ما سمعته وقرأته له؛ خاصة أن المحرك الأساسي والدافع الأبرز لكتاباته هو محاولة إحداث التغيير إلى الأفضل، واللحاق بركب الحضارة الحديثة التي لم نكتف بالتخلف عنها، بل صرنا سببًا في وضع العراقيل في طريقها، حسب توصيفه الذي لا يخلو من الصحة، للأسف الشديد. انطباعي الأولي المتكون لدي عنه، إذا، هو التحفظ على (لكي لا أقول النفور من) أطروحاته الراديكالية والحادة التي توشك أن تؤله الغرب وتؤسطره، مقابل القسوة المفرطة على العرب والمسلمين بوجه خاص، وكل أمم الأرض، التي لا تنتمي حضاريًا للغرب. لم أكن قد قرأت له أيًا من كتبه المنشورة من قبل، أو ما نشر عنه من كتب، إلى أن وقع بين يدي كتاب صادر حديثًا يضم حوارات مطولة معه أجراها الكاتب والمترجم السوري صبحي دقوري، يحمل عنوان (التلقائية الإنسانية)*. الكتاب موزع على سبعة فصول، يضم الفصل السابع منها شذرات من كتابات ومقالات البليهي، مع ملحق في قرابة 20 صفحة كتبها البليهي استجابة لطلب المحاور، وذلك ليرسم الملامح الأبرز لمشروعه الفكري.منذ الصفحات الأولى للحوار (الثانية تحديدًا) يفاجئك البليهي بهجوم حاد على الحضارة العربية، التي يقول عنها: إنها «تعد الناس لما بعد الموت وتعتبر أن هذه هي وظيفتها الأساسية» وينفي عنها صفة «الدنيوية»، أي أن تكون الحياة الحاضرة وتنميتها مدارًا لها، إذ إننا «نحن العرب ظهرنا على مسرح التاريخ دعاة دين فقط، ولم يكن من ضمن اهتماماتنا أن نبني حضارة».ومنذ البداية أيضًا يفاجئك البليهي بدرجة عالية من اللا تواضع المعرفي حين يقول مثلا: إنه «لم يسبق أن تطرق أحد للتغيرات النوعية في الحضارة الإنسانية كما فعلت» ص 23. ويقول في نفس الصفحة أيضًا: «أعتقد أن كثيرين في أوروبا والغرب عموما سوف يتفاجأون بمضمون كتبي، لأنني تناولت الفكر الغربي برؤية حتى الغرب نفسه لم ينتبه لأهميتها». وحين يسأله المحاور عن كتابه (التغيرات النوعية)، يقول «هو كتاب تحتاجه كل الأمم لتبديد أوهام الشعوب التي ما زالت تظن أنها أسهمت في بناء حضارة العصر». ص 34. وفي الصفحة المقابلة نسمعه يقول: «لم يسبق أن اطلعت على أي كتاب يتناول جذور الحضارة الغربية وما أحدثته من تغيرات نوعية في الحضارة الإنسانية بالشكل الذي تناولتها به، لذلك فهو أول كتاب في العالم يتناول هذه القضية الأساسية بوضوح وشمول وتفصيل». وفي الصفحات الأخيرة من الكتاب نقرأ له ما يلي: «فالنتائج التي توصلت إليها متنوعة وعميقة، أجزم بأنها نتائج ثورية، ليس على مستوى ثقافة بعينها أو مجتمع معين وإنما على المستوى الإنساني» ص 203.يميز البليهي بين أستاذ الفلسفة والفيلسوف، ويقول -وهو محق في ذلك- إن الفلسفة أعلى من أي شهادة. ويمضي بعد ذلك لشن هجوم لا يخلو من القسوة على «أصحاب الشهادة» لأن الشهادة حسب ما يرى «دلالة على عدم استقلال التفكير، فحاملها ما زال طالبا يشهد له معلموه»، ويستشهد في هذا السياق بعدد من أسماء الفلاسفة البارزين، الذين لم يحصلوا على شهادات جامعية عليا، أو مَنْ كان تخصصهم بعيدا عن دراسة الفلسفة، متناسيًا أن كثيرًا من الفلاسفة أيضا قد خرجوا من داخل المؤسسات الأكاديمية، وارتبط اسمهم بها دراسة وتدريسًا.وفي حين أن دقوري يقف أمام البليهي موقف المنبهر بعلمه وثقافته وفكره مكتفيًا بطرح الأسئلة وكيل الثناء من حين لآخر عليه، إلا أنه يخرج أحيانًا من دائرة الانبهار والتبجيل تلك أحيانًا ليدخل في جدال شيق، مثلا، حول ثنائية الحقوق والواجبات، حيث يرجح البليهي كفة الحقوق، في حين يرجح دقوري كفة الواجبات ويستطرد في شرح وجهة نظره المعتمدة على تأسيس فلسفي أكثر رسوخًا. حين يُسأل البليهي عن إدوارد سعيد، يقول عنه: إنه «منحاز بوضوح» وإن «رؤيته ليست إنسانية بل منحازة بقوة» دون أن يقول لنا منحازة إلى ماذا. ولكن المفهوم من سياق حديثه هو اتهام سعيد باللا موضوعية فيما يتصل بتحليله غير المستلب للحضارة الغربية، خاصة فيما يتعلق بصلتها بالمشرق عمومًا، والحضارة العربية على وجه الخصوص في العديد من كتبه (الاستشراق، والثقافة والإمبريالية كمثالين بارزين)، حد اتهام سعيد بأنه «أجج مشاعر العرب ضد الغرب، فأسهم في صدنا عن حضارة العصر» ص 109.الفصل السابع من الكتاب يضم مختارات من كتابات ومقالات البليهي، اختارها دقوري فيما يفترض أنها مواضيع مختلفة، ولكن الملاحظة الأبرز على هذه المختارات أن كاتبها يردد ويعيد مرارًا وتكرارًا، ودون كلل أو ملل، ذات الأفكار والأطروحات، وفي كثير من الأحيان ذات التعابير والمفردات. ومن أبرز تلك الأفكار نقده اللاذع للتعليم النظامي على مستوى العالم، وعلى وجه الخصوص في العالم العربي بالطبع، وهو لا يتردد في الدعوة إلى اختصار سنوات الدراسة ودمج مراحل التعليم ليتاح للمتعلمين الدخول في مجال العمل بعد الثامنة عشرة أو حتى قبل ذلك.يقول في ص 171: «التعليم في أي مجتمع متخلف لا بد أن يكرس التخلف ويحميه ويزكيه ويبرره ويمنحه المشروعية»، إلا أنه يستثني المجتمعات الليبرالية «التي تمنع السلطة من التدخل في تحديد السياسة التعليمية بما يؤطر العقل ويحد الرؤية ويستبعد المغاير». وهنا نلمس شيئًا من التراجع عن حالة التعميم السابقة التي عمم من خلالها وشمل بنقده الصريح والقاسي جميع المجتمعات الإنسانية.يردد البليهي كثيرًا فكرة أن النهضة الفكرية، التي يرجى منها إحداث التغيير في أي مجتمع من المجتمعات لا بد لها من «جناحين: جناح الريادة الفكرية وجناح الاستجابة لها من المجتمعات التي تتوجه إليها هذه الريادة» ص 179. ويؤكد لنا جازمًا أن «الثقافة الوحيدة في العصور القديمة التي أحدثت قطيعة لهذا الشعب مع التلقائية الثقافية الموروثة هي الثقافة اليونانية فقط» ص 186، أما الثقافات البشرية الأخرى فلم تكن متهيئة للتفاعل واستقبال نتائج هذه الطفرة المذهلة ص 186. ويمضي ليقول إن الحضارة المعاصرة (الغربية طبعًا، وفقط طبعًا!) التي هي امتداد للحضارة اليونانية وحدها، ليست مدينة لأي حضارة أخرى. وإن كانت مدينة لأحد فهي مدينة لأفراد أسهموا في إحياء الفكر اليوناني مثل ابن رشد والرازي والفارابي وابن الهيثم وابن النفيس وجابر بن حيان وغيرهم، وكأن هؤلاء لا ينتمون ولا يتحدرون من ثقافة وحضارة بعينها فرضت حضورها وهيمنتها الحضارية والمعرفية لمئات السنين وفي أصقاع ممتدة جغرافيا من العالم. يؤكد أيضًا مرارًا وتكرارًا على دور النخبة المبدعة من المفكرين «الخارقين» في إحداث التطورات الهائلة في شتى صنوف المعرفة والفنون والآداب. ومن جانب آخر يوجه سهام نقده الحاد لمَنْ لا يتردد في وصفهم بـ«القطعان البشرية». ورغم استثنائه للغرب ونفي التخلف عنه آنفًا فيما يخص التعليم، إلا أنه يعود ويقول إن المجتمعات الأوروبية لم تتحرر بعد من ماضيها وثقافاتها المتوارثة، وذلك لأن تأثير من يسميهم فلاسفة الاختلاف، معددًا أسماء مثل نيتشه وفوكو ودريدا ودولوز وليوتار وبلانشو، هو «تأثير محصور بفئة محدودة العدد وضئيلة التأثير على الجماهير التي تتوارث التبرمج التلقائي بركام التاريخ وأوهامه وترهاته» ص 191، فكيف إذن تحقق للغرب ما تحققه له من تطور حضاري مشهود إن لم تتحقق الاستجابة لفكر هؤلاء الرواد؟في إطار حديثه عن القدرة على التغير وضرورتها لإحداث النقلة الحضارية المنشودة لأي أمة من الأمم، يورد مثالاً من الغرب (بالتأكيد!) «الذي كان يشحن الأفريقيين مكبلين بالحديد ويستعبدهم كغيره من الأمم، حيث كان الرق ثقافة بشرية عامة» ليدخل بعد ذلك «حربًا طاحنة من أجل تحرير العبيد». لا تخفى هنا النبرة شبه الاعتذارية للغرب في وصفه للرق أنه كان ثقافة بشرية عامة، بمعنى أنه ممارسة مقبولة من قبل أمم الأرض كافة في وقت من الأوقات. من جهة أخرى، نقرأ له قوله في الصفحات الأولى من الكتاب إن معيار ثقافتنا هو «الفتوحات وامتلاك القوة العسكرية وبسط السيطرة وفرض الإسلام» ص 20 دون أن يقدم تبريرًا مشابهًا من أنه في عرف الثقافة البشرية فيما سبق من الأزمنة كان من الطبيعي والمقبول والمتفهم أن تعمد كل أمة لبسط نفوذها على ما يجاورها من الأمم إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً. هذا بالطبع إذا ما حيّدنا جانب البعد الديني الرسالي من المسألة برمتها، وآثرنا أن ننظر إلى الأمر من زاوية البعد الثقافي الإنساني المشترك.ختامًا، لا يخلو الكتاب من بعض الآراء التي لا يمكن وصفها إلا بالطرافة، من مثل قوله حين عن سئل عن المرأة «إنها تجسد الجمال والكمال الإنساني.. وهي بدون شعر، بينما الرجل لو لم يواصل الحلاقة لغطاه الشعر واقترب من الحيوانات».ثمة ملاحظة أخيرة فيما يخص أسلوب كتابته، الذي يميل إلى السيولة اللفظية وتكرار الأفكار وإعادة تدويرها مستخدمًا نفس المفردات مع تغييرات وتعديلات طفيفة، مع ميله الملحوظ والممل من بدء كل فقرة من فقرات مقالاته تقريبًا بأداة التوكيد «إن».* من إصدارات دار التنوير، 2016م.