د. سعود العماري

المثالب والعيوب الرئيسة في قانون جاستا

تحدثت في عدة مقالات سابقة عن قانون جاستا أو (قانون العدالة ضدَّ رعاة الإرهاب) الذي يسمح للأفراد الأمريكيين، والمؤسسات الأمريكية، من ضحايا الهجمات الإرهابية، بمقاضاة الدول الأجنبيَّة، التي يدّعون تورطها في دعم أو تنفيذ عمليات إرهابية تحدث داخل الولايات المتحدة الأمريكية، أو خارجها، ويتعرَّض لها مواطنون أمريكيون، وتنتج عنها إصابات أو حالات وفاةٍ، أو أيَّة أضرار أخرى، ولا شك أن في هذا الأمر خرقًا وانتهاكًا صارخين للعديد من المبادئ والقواعد القانونية الدولية الراسخة. إذ أنه يستهدف تقويض مبادئ وقواعد القانون الدولي، وصياغة قواعد قانونية دولية جديدة، تكون موازية أو مناقضة لقواعد ومبادئ القانون الدولي الحاكمة، بحيث تأتي هذه القواعد الجديدة بمثابة أداة لضمان الحفاظ على الأهداف والمصالح الأمريكية الخاصة والفئوية، على حساب سيادة ومصالح وحقوق الدول الأخرى، جاعلة بذلك دعاوى الأمن القومي الأمريكي تسمو فوق احترام وهيبة قواعد القانون الدولي. ومن بين أهم المبادئ القانونية الراسخة التي ينتهكها قانون جاستا، مبدأ الحصانة السيادية، الذي يرتكز على عدم جواز خضوع دولةٍ ما، بغير إرادتها ورضاها، لقضاء دولة أخرى. أي أنه لا يجوز لدولة ذات سيادة أن تفرض سلطتها القضائية على دولة أخرى ذات سيادة، نظرًا لأنه لا توجد دولة تملك الحق، قضائيًا وقانونيًا، في الحكم على أفعال دولة أخرى، وذلك استنادًا إلى مبدأ سيادة الدول والمساواة بينها، الذي نصت عليه العديد من المعاهدات والمواثيق الدولية، وفي مقدمتها ميثاق الأمم المتحدة. وبالتالي فإن فرض إحدى الدول سيادتها على دولة أخرى يعد انتهاكًا وإخلالًا بمبدأ السيادة. ويهدف مبدأ الحصانة السيادية، أو حصانة الدولة، إلى منع بحث المسائل التي تتعلق بأفعال دولة ما في محاكم دولة أخرى. ولهذا تُعدُّ الحصانة بمثابة الحاجز أو المانع الذي يحول دون فرض ولاية محكمة أجنبية، في دولة ما، وممارسة اختصاصها في المقاضاة وإنفاذ الأحكام ضد دولة أخرى. ولعل هذا ما حدا بالفقيه القانوني شارل روسو إلى القول: «إن أساس الحصانة السيادية يعد من شروط أداء الجماعة الدولية ومن خصائصها، حيث تُعد الحصانة ضرورية لتيسير أعمالها». ويُفهم من هذا أن الحصانة السيادية هي امتيازٌ ممنوحٌ للدولة وممثليها، وفقًا للمبادئ الدولية والقوانين الوطنية في هذا الخصوص، بغرض المحافظة على سيادتها واستقلالها إزاء الدول الأخرى. ولهذا تمتنع محاكم أية دولةٍ عن ممارسة الولاية القضائية في أي دعوى مقامة أمام محاكمها ضد دولة أخرى. وتضمنُ الدولُ، لتحقيق هذه الغاية، أن تقرر محاكمها، من تلقاء نفسها، احترام حصانة الدول الأخرى. وهكذا فإن الحصانة السيادية قيدٌ أو استثناءٌ تنص عليه أحكام القانون الدولي والقوانين الوطنية، وبموجبه تخرج الدول الأجنبية ذات السيادة عن اختصاص ولاية محاكم الدولة. وينضوي تحت الحصانة القضائية نوع آخر من الحصانة يعرف بحصانة التنفيذ، التي تُعد نتيجة منطقية لها، وهذا النوع من الحصانة يستهدف الامتناع عن تطبيق طرق التنفيذ؛ من حجز وتوقيف وحراسة ومراقبة على الدول الأجنبية. وتطبيق هذا المبدأ واحترامه مرهونان بتصرفات وممارسات الدول تجاه بعضها البعض، من خلال سنِّ تشريعاتها وقوانينها الوطنيّة، وتنظيم ممارساتها القضائية، بالكيفيّة التي تحفظ لهذا المبدأ احترامه واستقلاله وثباته، وتضمن أداءه دوره الحضاري، في المجتمع الدولي، بما يتفق مع مبادئ الأمم المتحدة، التي تهدف إلى إنماء العلاقات الوديّة بين الأمم على أساس المساواة في الحقوق بين الشعوب. وكامتداد لما ذكرته، تشمل الحصانة السيادية للدولة جميع الأعمال التي تقوم بها الدولة من طريق ممثليها، وقد نصت، على هذه الحصانة، المادة الخامسة من اتفاقية الأمم المتحدة لحصانات الدول وممتلكاتها من الولاية القضائية، حيث جاء فيها ما يلي: «تتمتع الدولة، فيما يتعلق بنفسها وممتلكاتها، بالحصانة من ولاية محاكم دولة أخرى، رهنًا بأحكام هذه الاتفاقية». ولا تقتصر الحصانة السيادية على الدول ذاتها فقط، بل تنطبق، بذات القدر، على قادة الدول وممثليها ووكلائها، فلا يجوز لمحاكم دولة ما مقاضاة حاكم أجنبي عن طريق وسائل التقاضي المتبعة فيها، لأنه يمثل دولته ويعمل ويتصرف باسمها، ومن البديهي أن تمتد إليه الحصانة الممنوحة لدولته، احترامًا لسيادة دولته واستقلالها، وتمكينًا له من أداء المهام المسندة إليه على الوجه الأمثل، والأمر ذاته ينطبق على غير القائد من مسؤولي الدولة وممثليها الذين يتصرفون نيابة عن دولهم. وهكذا، فمن حيث الموضوع يتمتع بالحصانة السيادية مسؤولو الدولة بوجه عام، بغض النظر عن مركزهم في تسلسلها الهرمي. وقد أيد هذا الاتجاه قضاء المحكمة الدولية ليوغوسلافيا السابقة، حيث نصت المحكمة في إحدى القضايا المعروضة عليها على ما يلي: «ترفض دائرة الاستئناف إمكان إصدار المحكمة الدولية أوامر بإحضار مسؤولي الدولة المتصرفين بصفتهم الرسمية، فهؤلاء المسؤولون مجرد أدوات للدولة، ولا يمكن إسناد تصرفهم الرسمي إلا لها، ولا يمكن خضوعهم لجزاءاتٍ أو عقوباتٍ على سلوك ليس خاصًا، وإنما نُفِّذ بالنيابة عن الدولة. وبعبارة أخرى؛ لا يمكن أن يتحمل مسؤولو الدولة عواقب الأفعال غير المشروعة التي لا تُسند إليهم شخصيًا بل إلى الدولة التي يتصرفون نيابة عنها...». أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فقد نصَّ قانونها المعروف باسم «قانون حصانات الجهات الأجنبية ذات السيادة» أو (Foreign Sovereign Immunities Act)، الصادر عام 1976م، على أن الدول ذات السيادة وممثليها ومسؤوليها يتمتعون بالحصانة، مع وجود بعض الاستثناءات التي تضَّمنها هذا التشريع. وفي هذا الإطار، عدَّت بعض محاكم الولايات المتحدة الأفراد المسؤولين بمثابة (أدوات) للدول الأجنبية التي يتبعونها، بموجب قوانين الحصانات السيادية الأجنبية. وقضت المحكمة العليا للولايات المتحدة بالحصانة المطلقة للعاهل الأجنبي في العديد من أحكامها، استنادًا إلى أن حصانة رئيس الدولة مُستمدةٌ من الحصانة التي تتمتع بها دولته ككيانٍ مُستقلٍ له سيادة لا يجوز إخضاعه للسلطة القضائية لدولةٍ أجنبية. ومن بين السوابق القضائية التي رسخت الحصانة السيادية في الولايات المتحدة الأمريكية، الحكم الذي أصدرته، مؤخرًا، إحدى المحاكم الأمريكية؛ وهي المحكمة الجزائية لمنهاتن، أحد أحياء مدينة نيويورك، حيث أصدرت حكمًا يتضمن إسقاط التهم الموجهة إلى المملكة العربية السعودية من قبل عائلات ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001م، حيث قام هؤلاء بمقاضاة المملكة واتهامها بتقديم الدعم المادي لتنظيم القاعدة؛ المتهم الوحيد في هذه الأحداث الإرهابية، ففي 29 سبتمبر من عام 2015م، رفضت المحكمة دعوى المدعين، وقضت بأن المملكة العربية السعودية دولة تتمتع بالحصانة السيادية، وبالتالي لا يمكن مقاضاتها بشأن دعاوى التعويض المرفوعة ضدها. وهناك العديد من الأحكام والسوابق القضائية الأخرى التي صدرت عن المحاكم الأمريكية في هذا الخصوص، والتي يصعب التطرق إليها والوقوف عليها وتناول أبعادها وجوانبها القانونية المتشعبة في هذا المقام. وعطفًا على ما سبق، فإن قانون الحصانة السيادية الأجنبية الأمريكي، يمنع المحاكم الأمريكية من بسط ولايتها القضائية على الدول الأجنبية، بما في ذلك ممثلو هذه الدول والأجهزة التابعة لها. كما أن الشخصيات الاعتبارية المستقلة والجهات أو الهيئات الحكومية التابعة للدولة الأجنبية وكذلك الشركات المملوكة له؛ مثل شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية) على سبيل المثال، تتمتع بالحصانة بموجب هذا القانون، فيما عدا ما يستثنى من نشاطاتٍ حددها نفس القانون؛ مثل انخراط الحكومة الأجنبية في نشاطات تجارية معينة، أو مخالفة التزامات تعاقدية ترتب عليها إضرار بالآخرين. ولكن، جاء (قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب) أو جاستا كما يُعرف، لينسف هذه المبادئ التي استقرت لحقبة زمنية طويلة، من أساسها، في خطوة تمثل اعتداء صارخًا وانتهاكًا جسيمًا لقواعد ومبادئ القانون الدولي العام، ولما استقر عليه قضاء الولايات المتحدة نفسها لأزمنة بعيدة. وفضلًا عما ذكرت من كون جاستا يُمثل خرقًا للأعراف والقوانين الدولية واستهانًة بها فإن واحدة من أهم المثالب والمخاوف المتعلقة بجاستا تتمثل في أنه مكتوب بطريقة تعطي حكومة الولايات المتحدة الفرصة «لابتزاز دول أجنبية ذات سيادة» متى ما رُفعت دعاوى تنطوي على «إرهاب دولي» ضدها في المحاكم الاتحادية الأمريكية. فالفقرة (ب) من الفصل الخامس من جاستا تمنح المدعي العام الأمريكي صلاحية التدخُّل في أي إجراء تكون فيه دولة أجنبية خاضعة للسلطة القضائية لمحكمةٍ أمريكية. كما ينص البند الأول من الفقرة (ج) من الفصل الخامس على أنه «يحق للمحكمة الأمريكية المختصة إيقاف الدعوى المرفوعة ضد إحدى الدول الأجنبية إذا ما شهد وزير الخارجية بأن الولايات المتحدة داخلة في مناقشات بنية حسنة، مع الدولة الأجنبية المدعى عليها، بشأن حل دعاوى المُطالبات المرفوعة ضدها.......». ولا شك أن هذه الأحكام تمنح المدعي العام ووزير الخارجية في الولايات المتحدة؛ أي الحكومة الأمريكية نفسها، القدرة على «الضغط على دولة أجنبية ذات سيادة» للتوصل إلى تسوية مع المدعين الذين يزعمون أن تلك الدولة الأجنبية متورطة في الإرهاب الدولي. وهذا الأسلوب، الذي لا يُتاح بالطبع للمُدعى عليهم من الأفراد أو المؤسسات غير ذات السيادة، إنما يُوظف في النهاية للضغط على الحكومات الأجنبية، ووضعها في موقف صعبٍ قد يُجبرها على تقديم تنازلات غير عادلة تحت الضغط الذي يتمثل في «احتمال تدخل المدعي العام» أو «شهادة وزير الخارجية بوجود مناقشات بنية حسنة». ومن المُضحك المُبكي في هذا الأمر، والمُدهش بالنسبة لي كمحامٍ، أن أحد المحامين الأمريكيين كتب مُقترِحًا، حلًا «لإصلاح جاستا» كما قال، وأراد أن يكحِّلها فأعماها، إذ اقترح أن يتم إصلاح قانون جاستا بمنح الرئيس الأمريكي صلاحية الاستثناء منه!!! ولا شك أن هذا المحامي لا يُدرك أنه باقتراحه هذا يُضيف أداة ضغطٍ «وابتزازٍ» أعلى درجة إلى الأداتين السابقتين اللتين ذكرتهما، وأن اقتراحه هذا لن يُصلح هذا القانون وإنما سيزيد طينه بِلّة. وبالإضافة إلى كل ما ذكرت، غنيٌ عن القول إن الإرهابيين ظلوا، على الدوام، يستخدمون الإيهام بالكراهية وردود الأفعال السلبية من خصومهم، أدوات يكسبون بها ود ودعم مناصريهم. ولا شك أن جاستا، في هذا السياق، سيزود الإرهابيين، دون جهد يُذكر من جانبهم، بالوقود اللازم لإضرام نار الكراهية، ولإثبات أن الولايات المتحدة تستهدف، بشكل متعمد ومتواصل، ديانة مُعينة أو عِرقًا معينًا. ومن خلال القيام بذلك سينجح جاستا في دق إسفين بين الولايات المتحدة وبين العديد من الدول المستهدفة، بما في ذلك أقرب حلفائها وأكثرهم تعاونًا معها. وفي هذا الإطار سيتيسر، بسبب جاستا، خلق الفتنة وإضرام نار العداوة والفرقة بين المملكة والولايات المتحدة، وهما اثنتان من أهم الحلفاء في مجال مكافحة الإرهاب الدولي. وهذا، في حد ذاته، يأتي في مقدمة الغايات والأهداف التي ترمي إليها الخلايا والمنظمات الإرهابية. ومن المؤسف أن تنجح مخططات هذه الفئات الإرهابية الضالة في تحقيق غاياتهم وبلوغ آمالهم وتطلعاتهم، حيث جاء جاستا داعمًا جوهريًا لهم على تحقيق هذه الغايات، وكنصر وتمكين لهم في مواصلة نهجهم القائم على تهديد السلم والأمن الدوليين. ولهذا فإن من أبرز النتائج والانعكاسات السلبية المباشرة، التي يمكن أن تنجم عن تطبيق القانون المذكور، هي تقويض علاقات التحالف والتعاون بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية في محاربة الإرهاب الدولي، بحيث تأمن الفئات الضالة على نفسها، وتضمن أنها ستواصل تنفيذ مخططاتها وجرائمها البربرية، التي تستهدف قتل وترويع الآمنين، وإحداث الفوضى والخراب والدمار، بعيدًا عن التعرض لمقاومة شرسة كما هي الحال في السابق، في حال اضمحلال هذا التحالف القوي الذي اشتهر بقوته وضراوته في مواجهة الإرهاب والعنف والتطرف. ومن ثم، فإن الفائز الأكبر من سريان ونفاذ (قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب)، ليس الأفراد وبعض الشركات والمؤسسات الأمريكية في المقام الأول، كما يبدو للبعض في الوهلة الأولى، وإنما الفائز الأكبر والأوفر حظًا من تمرير هذا القانون وسريانه، هو الإرهاب الغاشم الذي لا يرقب في الناس، كل الناس، إلَّا ولا ذمة. ويأتي من بعده، في مرحلة تالية، النفعيون ممن يحملون راية المذهب الميكافيلي الشهير الذي ينادي بأن الغاية تبرر الوسيلة. وباختصار شديد فإن جاستا لن يقدم تعويضات لضحايا الهجمات الإرهابية أو عائلاتهم، وحتى لو نجح في ذلك، فإنه سيكبد الولايات المتحدة خسائر فادحة تتمثل في الرفض وانعدام الثقة وردود الأفعال السلبية، والأهم من هذا كله، تفكك التحالف الدولي القوي الذي تم بناؤه على مدى السنوات الماضية لمحاربة الإرهاب، ولا شك أن هذه هدية أنا على يقين من أن الجماعات الإرهابية لم تكن تحلم بها وسوف تتلقفها، بكل سرور، من الولايات المتحدة، ولسانها يلهج بالشكر!!!.