لمى الغلاييني

وللإبداع ثمنه الخاص

أي من هذين الشخصين برأيك يمكنه أن يقدم إضافة إبداعية أقوى: المتميز عقليا مع دافعية عادية؟ أم الأقل في التميز العقلي لكنه أكثر دافعية؟ يمكنك مقارنة إجابتك بما توصل له العالم النفسي كوكس COX بعد قيامه بالعديد من الأبحاث النفسية والمقابلات مع المختصين، فكانت الإجابة لدى الأغلبية لصالح الفرد الأخير، أي أن صاحب المستوى العقلي العادي مع دافعية مرتفعة لديه احتمالات أقوى للتميز الإبداعي.بعد الاستنتاج السابق انتقل البحث لدى مجموعة من المختصين النفسيين إلى التساؤل عن الدوافع الكامنة خلف تلك الدافعية، والتي قد نجد لها بعضا من الإجابات الصادمة مثل: كتاب الدكتورة سو إريكسون بلولاند Sue Erikson Bloland ابنة العالم النفسي الشهير إريك أريكسون، فهي معالجة نفسية مرموقة وكاتبة موهوبة مثل والدها، وقد ناقشت في كتابها الذي نشر بعنوان (الشهرة: قوة الإبداع وتكلفته Fame ; The Power & Coast of a Fantasy) تحليلا نفسيا للشهرة وتكلفتها وثمنها الأسري. وباعتبارها طفلة الشهرة فقد وضحت بتعمق شديد التدمير المصاحب الذي يحدث لأفراد أسر المشهورين، واعتبرت الشهرة تعبيرا مرضيا عن النرجسية، وأن الكفاح المستميت من أجل الإبداع والبقاء تحت الأضواء هو دفاع ضد الشعور بالتهميش ومحاولة للتغلب على نقص الذات، وأن النية الخفية لتنمية الفرد لموهبته المتميزة دائما ما ينشطها الدافع لأن يكون مشهورا.واعتبرت بلولاند أن سعي والدها للتفوق العلمي وكسب الشهرة كان مدفوعا بقوة بدافع النقص في العلاقات الإنسانية، فلم يكن يعرف والده الذي خذله وتخلى عنه كما رفضت والدته أن تفصح له عن هويته، فوقع إريكسون تحت تأثير ذلك طول حياته، وتشير ابنته إلى أن أعماله وأبحاثه كانت برأيها أداة للحصول على الاهتمام الذي لم يحصل عليه من والديه.إن دافعية الإنسان معقدة، ويصعب الجزم في تشخيصها، ولذلك فقد نختلف مع ما كتبته بلولاند في اختزالها لإبداعية والدها فقط في كونها معالجة لمشاعر النقص الوالدي لديه، حيث يمثل الهدف المشبع بالمعنى نوعا من الدافعية الإيجابية الممكنة للانشغال بمجال ما، وفي معظم المجالات التي يبدع فيها المرء تكون الدافعية هي كردة فعل للمشكلات الوجودية الضاغطة التي يواجهها الفرد في حياته المبكرة وكميكانيكية لتنظيم الطاقة الداخلية المستثارة وترجمتها إلى حل إبداعي، أي أنها استجابة محولة لتهديد شخصي. فقد يقرر فرد صغير فقد شخصا عزيزا عليه بسبب قصور المعالجة لمرض ما أن يصبح باحثا في الطب لاكتشاف علاج فعال لذلك المرض، وبمرور الوقت يكتشف أن عملية البحث العلمي تحمل في مضمونها الشعور الخالص بالمتعة. وهكذا فمن الممكن للفرد أن يحول المشكلة الشخصية إلى مسألة عامة ويحاول حلها من منطلق إنساني لا شخصي، ولذلك يمكن أن نفسر اكتشافات إريكسون طوال حياته العلمية عن أزمة الهوية ونمو الهوية بأنها نشطت واستثيرت بسبب الفقد المبكر للأبوة والذي حوله أريكسون من حالة خاصة إلى قضية إنسانية، وأما في علاقة المبدع بأفراد عائلته فقد ناقشت بلولاند تكلفة الشهرة الباهظة التي تدفعها عائلته والدائرة القريبة منه، لأن المبدعين يكرسون جهدا كبيرا ووقتا طويلا في التركيز على عملهم، وهذا ما يقلل بالضرورة من التزاماتهم الأسرية وعلاقاتهم الاجتماعية سواء كانت إبداعيتهم بدافع النقص أو القوة.ويبقى السؤال المطروح على كل مهتم بالإبداع في مجال ما: ما هي دوافعك للإبداع؟ هل التغلب على نقص خفي ما أو سعي إيجابي نحو تطوير مجتمعك؟ أم دافع ثالث مختلف عن الاثنين؟ وحدك تملك الإجابة.