زيارة الملك سلمان لواحة الطاقة والنخيل ورؤية 2030
تأتي الزيارة الملكية للأحساء في وقتٍ مفصلي؛ فقبل أشهر قليلة أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز عن «الرؤية السعودية 2030»، والتي هي توجه لحقبة ما بعد النفط، وفي تاريخ مملكتنا الاقتصادي، كان للأحساء دائما دور اقتصادي مميز، لم يبدأ مع اكتشاف النفط بل قبله بعقود مديدة، فقبل النفط لم تكن الأحساء واحة للنخيل فقط بل حاضنة اقتصادية تصنع كل ما يحتاجه مجتمعها والحواضر من حولها.ففيما عدا النفط، فمساهمة الأحساء في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة تقدر بأكثر من 400 مليار ريال، والاقتصاد المحلي لواحة النخيل والطاقة مرشح لأن يتضاعف على وقع «الرؤية السعودية 2030» مراتٍ عدة، بعد أن احدثت المبادرات التنموية حراكا اقتصاديا لا تخطئه العين؛ من تحديث وتوسعة للبنية التحتية إلى جهود تسعى حثيثا لتنويع الاقتصاد ليرتكز على الصناعة التحويلية غير النفطية وصناعة الطاقة والخدمات اللوجستية والسياحة، إضافة لتعزيز الأنشطة القائمة تقليديا مثل الزراعة والتجارة والخدمات عموما. وقد تواتر ذلك في سياقات عدة، ليس آخرها ما صرحت به أرامكو من اكتشاف للغاز الصخري في الجافورة.والأحساء -كما ندرك جميعا- تتمتع بعمق حضاري وثقافي وتنوع في مصادر الثروة؛ حيث تلتقي في الأحساء عناصر البحر والصحراء والنخيل والمخزون من الهيدروكربونات. فوق ذلك والأهم منه، تزخر الأحساء بثروة بشرية مواطنة ذات إرث في توليد القيمة والانتاج، ومتحرقة للمساهمة في بناء الوطن، وفي تحقيق الذات من خلال ما تنتجه وتساهم به في الاقتصاد الوطني. وبالقطع فإن استقطاب المزيد من الاستثمارات للأحساء يتطلب تحسينا مستمرا في بيئة الاستثمار للحفاظ على تنافسيتها وتميزها، وأن الميزة التنافسية لا تتحقق إلا من خلال تضافر الجهود -وبوتيرة مستمرة- ليعمل الجميع كفريق واحد يسعى لجعل استقطاب المزيد من الاستثمارات وتوليد فرص العمل القيمة لأهالي الأحساء هدفا يسعى له الجميع فهو يجلب النمو للاقتصاد المحلي والرفاه والتنمية للسكان.وقد حظيت الأحساء مؤخرا بتوسع في الإنفاق الحكومي، وخصوصا الانفاق الرأسمالي، انعكست آثاره على تطوير رقعة الأراضي المتاحة لممارسة الأنشطة الاقتصادية وكذلك سعة الاقتصاد المحلي من خلال تحديث واستكمال وتوسيع البنية التحتية. وبصورة عامة، فمن الضرورة استكمال المشاريع التنموية من منطلق أنها تبني سعة لقيام مشاريع إنتاجية فوقية تستقطب استثمارات القطاع الخاص وتولد فرص عمل للمواطنين. ولتناول ملامح التنويع الاقتصادي دون إطالة، أترك الحديث عن النفط والغاز والطاقة والأنشطة الصناعية المرتبطة به بما في ذلك الصناعة التحويلية، فالقطاعات غير النفطية، لاسيما في قطاعات الخدمات، يجب أن تحظى بالبيئة الاستثمارية الملائمة، فهي القادرة على توليد فرص عمل ملائمة ذات مردود قيّم للمستثمر وللعامل على حد سواء، وتجدر الاشارة هنا لأهمية توفير البنية التحتية والاستثمارية الملائمة لنمو قطاع السياحة، فهو ما زال قطاعا ضامرا في الأحساء يكثر الحديث عنه، لكن مساهماته على أرض الواقع لا ترقى للتطلعات التي تعول عليها الرؤية 2030 لأخذ دور متعاظم في زيادة مساهمة القطاعات غير النفطية، ومضاعفة الاستثمارات السياحية مرات عديدة، فبوسع الأحساء المساهمة مساهمة جوهرية في هذا القطاع الحيوي.والقطاع الآخر هو قطاع التجارة إجمالا، بما في ذلك التوزيع والتجزئة، وهو قطاع يشمل أصحاب المنشآت متناهية الصغر صعودا للمجمعات التجارية الضخمة والمتكاملة ولتجار الجملة. وكما هو واضح فإن هذا القطاع يمتلك مزايا متعددة بما يمكنه من تنشيط وإضفاء حيوية اقتصادية على الأحساء تعزز وضعها كنقطة تسوق تقليدية في منطقة الخليج العربي، لاسيما امتلاك الأحساء للموارد البشرية المتاحة للاستفادة من تلك الفرص.ولا شك أن تصنيف مطار الأحساء كمطار اقليمي، كان له أثر في تحسين خدمات النقل الجوي، بما يسهل الانتقال من وإلى الأحساء للركاب والبضائع. لكن بالنظر للأهمية الاقتصادية المتوخاة، فإن تجميل وتحديث المطار وترقيته لمطار دولي له ما يبرره أخذا في الاعتبار أن المطار يمكن أن يكون منطلقا للعديد من خطوط الطيران الإقليمية والعالمية، وبما يسهل ترسيخ وضع الأحساء كمحطة سياحية وترفيهية واعدة قادرة على استيعاب أعداد متزايدة من السياح من داخل المملكة ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ودول العالم. لن أستطرد أكثر، لكن لا يمكن الختام دون المرور على آفاق التنمية الحضرية التي بذلت أمانة الأحساء جهودا مضنية لتطويرها وبلورتها، وبينت قدرتها على أن تكون ضمن فريق يسعى للنجاح ولإزاحة العوائق، فقد كان لجهود الشراكة بين الهيئة العامة للسياحة والآثار وبين أمانة الأحساء أثر واضح في جعل مشروع تطوير العقير أقرب ما يكون ليصبح حقيقة، مدعما بالجهد الريادي الذي بذلته الهيئة العامة للسياحة باهتمام من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان لاطلاق شركة تنمية متخصصة لتطوير العقير بقرار من مجلس الوزراء الموقر، والسعي الحثيث لاستقطاب المستثمرين من المؤسسات الحكومية ومن القطاع الخاص للمساهمة في هذا المشروع السياحي المتميز..كل ذلك يساهم جوهريا في ولادة ما يتوقع أن يكون عملاقا يعزز تنافسية السياحة السعودية وخصوصا على الساحل الشرقي للمملكة، وفي الوقت ذاته يوجد أنموذجا وآلية لتنمية القطاع السياحي في مناطق ومحافظات المملكة، ومنتجا سياحيا وترفيهيا قادرا على استقطاب الزوار من دول الجوار. وهكذا، فالفرص حقيقية، ولا نريد لها أن تصبح فرصا ضائعة، أو لا يتاح لها المجال لتساهم عاجلا في تحقيق الرؤية السعودية 2030.وفي توقيت مُبَشر، تتزامن الزيارة الملكية للأحساء مع انضمام الاحساء لشبكة المدن الإبداعية العالمية بمنظمة اليونسكو في مجال الحرف اليدوية والفنون الشعبية. وإرث الصناعات التقليدية والحرفية عمره قرون، تلازم مع التاريخ، فالقضية لم تكن فقط تمرًا، رغم أهميته، وليس نسيجا وحياكة وتطريزا يدويا بخيوط الذهب والحرير لمشالح الرجال وعباءات النساء يسعى عِلية القوم لاقتنائها وإهدائها، بل كذلك الصناعات الحرفية الأخرى، فدلال القهوة العربية الأحسائية تفوق ما سواها، وستجدها هذه الأيام تزين المتاحف لتحكي تاريخ الاتقان في الصناعة والاكرام في الضيافة. كما أن المبادرة الفخمة للهيئة العامة للسياحة والآثار على قدم وساق لإعداد ملف متكامل وشامل لتسجيل واحة الأحساء في قائمة التراث العالمي لدى اليونسكو، كأرض للحضارات والابداع والمدنية. وفي حقبة السعي للتنويع الاقتصادي، وزيادة القيمة المضافة فلعل من الملائم بيان أن الأحساء تقليديا تمتلك اقتصادا منوعا، متميزا بجودة منتجاته، فالإتقان في الأحساء سمةٌ وسجية. فقد كانت تُرسل تمورها ومحاصيلها الزراعية المميزة للمناطق المجاورة والبعيدة، وكانت أسواقها مقصدا للمتبضعين من سائر البلدان المحيطة، حيث تتوافر البضائع ويتنافس عليها التجار بيعا وشراء. أما في الزراعة والاستدامة (sustainability)، فقد خط الأحسائيون الخط وألفوا الكتاب؛ فنظام الري الذي كانت المياه توزع عبره على المزارع، اتسم ليس فقط بالدقة بل بتدوير مياه الري أكثر من مرة لري المزروعات التي لا تتأثر بمستويات أعلى من ملوحة الماء، كما أن في ذلك حفاظا على البيئة والحفاظ على الموارد النادرة طلبا لتحقيق التنمية المستدامة. وبما أن مملكتنا الغالية تسعى لتنفيذ الرؤية 2030 لتقوم على الإنتاج وليس الريع، بما يتطلب إعادة هيكلة سوق العمل السعودية لتحقق أعلى استفادة من الموارد البشرية المواطنة، فالكدّ والعمل بما أحلّ الله كان في الأحساء هو القيمة الاقتصادية الأهم، بمعنى أن العيب ليس في أن يعمل الانسان أجيرا، بل العيب كل العيب أن يتسكع عاطلا وباستطاعته أن يعمل. ليس هذا فقط، بل إن مفهوم العمل جُبل على امتداد أجيال مع مفاهيم التنافسية والارتقاء المستمر بالجودة والكفاءة، مما صنع للأحساء اقتصادا تقليديا لم يشق له غبار في منطقته، ولذا نقول إن الاستثمار في الأحساء منافس عائدا وتكلفة؛ فثمة ثقافة متوارثة للاقتصاد في الموارد، ورفع كفاءة الانتاج بالتحسين المستمر، والتميّز بين الأقل جودة والجيد والأجود، والاقتصاد في استخدام الموارد الطبيعية تحقيقا لمبادئ الاستدامة. هذه معطيات تقول إن جاهزية الأحساء للمساهمة في ازدهار متجدد لاقتصادنا السعودي بالانتظار لتحقيق الانتعاش والرفاه لنا كافة.