زكي الميلاد

الفكر بوصفه سؤالا اجتماعيا

أردت من هذه المقولة التي سوف أعطيها صفة القضية، إثارة الحديث والنقاش حول: هل الفكر في مجتمعنا يمثل سؤالا؟ وهل يجري التعامل بوصفه سؤالا اجتماعيا؟أمام هذه القضية لسنا بحاجة إلى إجابة أحادية، ولا إجابة جازمة، ولا حتى إجابة نهائية، ولا ينبغي السعي لتحصيل مثل هذه الإجابات أو تفضيلها، فالأحادية فيها تفويت لمصلحة التعددية، والجازمية فيها تفويت لقيمة المراجعة، والنهائية فيها تفويت لفضيلة التكميل والتجديد.وعند النظر لهذه القضية من جهة التحليل النظري تفكيكا، فإنها تتكون من ثلاثة عناصر هي: الفكر والسؤال والاجتماع، الفكر ناظر إلى جانب الذهن ويتصل بعالم الأفكار، والسؤال ناظر إلى جانب الفعل ويتصل بعالم الأفعال، والاجتماع ناظر إلى جانب الموضوع ويتصل بعالم الإنسان.السؤال في هذه القضية هو عنصر الحركة في العلاقة بين الفكر والمجتمع، هو سؤال ومساءلة عن الفكر وعيا وإدراكا به، طلبا وتحصيلا له، سؤال يعطي الفكر فعل الحركة في ساحة المجتمع، ليكون الفكر متصلا بالسؤال، ومتلازما معه، بالشكل الذي يصنع من الفكر فيضا فكريا سيالا لا ينقطع ولا يتوقف في المجتمع.وبهذا المعنى فالسؤال هنا ليس المعنى العام للسؤال، ولا المعنى المطلق أو المجرد، وإنما السؤال الذي له صفة الحركة، ويكون قادرا على صنع وتوليد الحركة، وبقاء وديمومة هذه الحركة، التي نعني بها حدة التبصر المنبثقة من السؤال، ويقظة الضمير، وتوهج الفكر، وتموج الخيال، وانبعاث الإرادة. وبحسب هذه الحالة، فإن المجتمع هو مصدر الحركة حين يتجه إلى الفكر بوصفه سؤالا اجتماعيا، وهذا الموقف إنما يعبر عن حالة من الوعي الاجتماعي العام بالحاجة إلى الفكر، متخطيا الفكر بوصفه سؤالا خاصا يتحدد بنطاق فئة معينة في المجتمع، ومعبرا عن حالة الوعي الخاص الذي تعرف به هذه الفئة من جهة علاقتها بالفكر.ومن جهة التحليل التطبيقي بتقريب هذه القضية في نطاق مجتمعنا، فإن المفارقة المثيرة للدهشة هي أن الفكر ليس فقط لا يمثل سؤالا اجتماعيا في نطاقه العام على مستوى المجتمع فحسب، وإنما يكاد يتقلص ويتراجع حتى بوصفه سؤالا فكريا في نطاقه الخاص على مستوى ما يعرفون بالخاصة أو أهل الخاصة.ولا أدري إن كانت هذه القضية بهذا التصوير هي موضع اتفاق أم موضع اختلاف بين المعنيين بالشأن الفكري، فلا ضير ولا حرج على الإطلاق إن كانت موضع اختلاف، فالذي أراه أن جانب الغلبة في اهتمامات الخاصة يتحدد بصورة رئيسة في اتجاهين هما: الأدب والدين، الأدب بفنونه وأجناسه من الشعر والقصة والرواية والنقد، والدين بعلومه ومعارفه من العقيدة والكلام والحديث والفقه..ومن يرد أن يتوثق بهذا الأمر في جانب منه، يمكنه الرجوع إلى قوائم إصدارات الأندية الأدبية الستة عشر، ليجد أن حظ الفكر في هذه الإصدارات متدن، ولا يمثل إلا نسبة بسيطة لا تكاد تذكر أمام تفوق فنون الأدب وأجناسه.ويتأكد هذا الأمر كذلك، عند العودة إلى مناشط هذه الأندية على مستوى المحاضرات والأمسيات والمنابر والندوات والملتقيات التي يحضر فيها الأدب بفنونه ويتسيد ويتفوق، ويتراجع فيها الفكر ويكاد يكون غائبا ومنسيا.وهكذا الحال يصدق حتى على المنتديات الأهلية التي يحضر فيها ويتغلب الاهتمام بالشأن العام وما يعرف بالمجال العمومي، ويتراجع فيها ويتقلص الاهتمام بشأن الفكر مسائله وقضاياه الجادة والمعمقة، حرصا من هذه المنتديات على ما يبدو في أن تظهر على صورة الاقتراب من قضايا المجتمع وهمومه، والمحافظة على هذه الصورة وتفضيلها وإشاعتها كسبا للجمهور العام.وفي المقابل حرصت هذه المنتديات على التخفيف من صورتها الفكرية حتى لا يقال عنها إنها مجالس للفكر وأهل الفكر، وتعنى بقضايا بعيدة عن شؤون المجتمع وهمومه.ويصدق هذا الحال ويتأكد كذلك، كلما تتبعنا المناشط والأبعاد الأخرى وتوغلنا فيها فحصا وتشخيصا، فسوف نجد أن الفكر لا يحظى بدرجة عالية من الاهتمام، وأظن أن هذه النتيجة سيصل إليها كل من يعتني بهذا الموضوع ويقترب منه.ولتدارك هذا الوضع نتساءل: هل من الممكن أن يظهر الفكر بوصفه سؤالا اجتماعيا؟ في البدء نحن بحاجة إلى الالتفات لهذه القضية، واستظهارها وتحريكها لتكون في دائرة الضوء ظاهرة ومنكشفة، ومن ثم توسعة النقاش حولها، وتعميق المعرفة بها، فهي من القضايا التي لم تأخذ فرصتها من النقاش الفعال الذي تتعدد فيه وجهات النظر توافقا واختلافا، تقاربا وتباعدا.وطرح هذه القضية، يأتي في سياق ضرورة إحداث تغيير في علاقة المجتمع بالفكر، وتكوين وعي اجتماعي يرى حاجته الملحة للفكر، حتى يسعى سعيه في هذا الدرب الطويل، ليكون الفكر حاضرا في ساحة المجتمع، ومتجليا بصور مختلفة في الحياة العامة، ومتحركا بوصفه سؤالا اجتماعيا محفزا وبصورة دائمة على الكسب والتحصيل والتعلم والبناء الفكري الخلاق.ومن الواضح أن هذه المهمة بحاجة إلى زمن غير قصير، فتغيير علاقة المجتمع بالفكر لا يمكن أن تحدث بسرعة، ولا بصورة فجائية، ولا تأتي طفرة، ولا حتى هبة، ولا تحصل من دون مقدمات وبلا أرضيات أو محفزات، لأننا أمام تغير عميق له علاقة برؤية المجتمع لذاته، تقدما وتراجعا، حاضرا ومستقبلا، فالعلاقة بالفكر تنم عن رؤية فيها من الرشد والنضج والتبصر بما هو كائن وبما ينبغي أن يكون.