د. محمد حامد الغامدي

السطوح كانت تحقق تطلعات لا تتوقف

▪▪ الحديث عن السطوح العربي مجال ممتع، يحمل تجليات بأبعاد، تجليات تأخذ إلى مضارب بني عبس المزاجية، نشاهدها، لا نفهمها، مضارب برموز، للفرد حق السطوع على السطوح، رموز بتضاريس، نقوش يختلف حولها البشر ويتفقون، الاختلاف لا يهم، لنا تضاريس نفسية غير مقروءة، أرضنا كذلك وبيئتنا بكاملها.▪▪ سطح البيئة العربية يحمل الحزم والشدة، يعطي ويمنع، بيئة تحمل الشيء ونقيضه، مظهرها جاف وقاحل، مظهر حيّر العقول، أوجع البعيد والغريب والدخيل، حتى تراب البيئة - عند العرب- سلاح في وجه العدو، الأرض شرف وكرامة وهوية، ننسى كونها ترابا له غبار، في زمن الاستثناءات العربية، هو البديل الطيب عن ماء الوضوء، أليس هذا أعظم تكريم للتراب؟! منه بدأنا وإليه نعود؟!▪▪ كان فراغ سطح الأرض لنا فراشا ومرتعا، حلّت مدن الاسمنت المعلّبة، تجمّع العرب في صناديقها المُغلقة، جاءت بكل العيوب والتحديات والمشاكل، شغلت العرب عن فن التواصل مع الفضاء، لم تكن المدن الاسمنتية من الثقافة والتاريخ والموروث، قوالب جامدة، علب محشورة في الزمان والمكان، بناء كأن مهمته تجفيف منابع الخيال العربي، مدن أشبه بثلاجات حفظ الأغذية،، ساخنة وباردة، أشبه باسطوانات الغاز المضغوطة، تنتظر الاستعمال، أو الانفجار، أو التخزين، هكذا أصبح العربي في قبضتها. ▪▪ هل سيعجز العربي عن الفكاك والهروب؟! هل سينجح في امتصاص تأثيراتها السلبية؟! هل سينجح في الخروج إلى عالمه الفسيح؟! عالم فريد مغروس في شخصيته؟! هكذا العرب، لهم عوالم فسيحة نابضة بالمتغيرات، حتى وإن كانوا في زنزانة، محدودة المساحة، يكفي فراغها لتمدد الجسم، يكفي فراغها لاحتواء الشهيق والزفير، يكفي ظلّها الدائم غطاء وسترا، العربي بطبعه رهينة العيش في سجن الصحاري والقفار، رهينة العشق والخيال والسلام. ▪▪ العربي كالماء، يجد دوما مخرجا للعبور، بالركود يتعكر ويفسد التكوين، نجح في تمرده على حياة المدن الدخيلة، استغل السطح، اختراع عزز تواصله مع السماء ومكوناتها، بالسطوح عاد إلى ممارسة علم الخيال وطقوسه، رسم لوحات لواقع جديد، أبدع وتميز مع الخيال، لم يضيّع الوقت، لم يهدر العُمر، استثمرهما مع خيال عدّل المزاج والكيف، نجح في حجب تجاوز تفكيره نحو الضياع. ▪▪ كان سطوح الأرض، وساحات بيوت الطين، والشعر، والحجر، مصدر الإلهام، جاءت حكاية التيه، في عوالم القوالب الاسمنتية، جاءت بمسلسلات التفريط، بداية بالتسكع في شوارعها، مساحات مشغولة، أماكن محفوفة بواجهات العمائر، كان عليه البحث عن مخرج، بزغ السطوح في مخيلته، مجد بديل، حوّل العرب السطوح إلى صناعة لها أركان، حولوه الى معمل للعلاقات الانسانية والاجتماعية، معمل للتحفيز على احترام النفس والنعمة، حولوه إلى معمل للتأملات، للتعامل مع السماء ومكوناتها.▪▪ كانت الأرض المفتوحة مسرحا لحياة العربي، تلاشى المسرح مع مد حضارة الاسمنت والدولار والنفط، كان لكل موقع في حياتهم سطوح لا يحجب رؤية السماء، الصخور لها سطوح، الرمال لها سطوح، المقابر لها سطوح، العقول لها سطوح، حتى ظهور قوافل إبلهم بسطوح ممتع، يمارسون على ظهورها رقصة التمايل وهم جالسون، تميل نصف الاجساد يمنة ويسرة، تنحني إلى الامام وإلى الخلف، معها تهتز بقية مكونات الجسد العربي، إذا توقف هذا الاهتزاز توقفت الحياة.▪▪ إيقاع يأتي على وقع خطا تلثم وجه الأرض، كل القافلة «خُف» واحد يفترش الرمل، «خُف» يسند قوام الإبل، يمتص ثقل الأحمال، «خُف» يعرف دوره مع وظيفته، «خُف» لا يخترقه شوك نبات الأرض، لا يتأثر بنتوء حجارتها، لا يبرد، لا يحتر، قافلة الإبل العربية قاطرة حقيقية بسطوح، هي الأصل والإلهام.▪▪ قاطرة الإبل حركت خيال حضارة «الغرب»، بفضلها جاءوا بقاطرة الحديد والنار والضحايا، كان ينقصهم السطوح، يعتق النفس من الأوجاع، وتلبك الخطايا على الارض، لا يتأملون مثل العرب، التأمل فصاحة عقل، التأمل منطق حياة، التأمل فقه إنساني راق ولطيف، البعض يتخطاه ليفقد إنسانيته.▪▪ قاطرة العرب من لحم ودم، قاطرة من روح لها نكهة، قاطرة تتحرك في ضوء قمر يعشقون، حبات رمال ناعمة تنقلها وتحملها، رمال باردة في ليلهم، ساخنة في نهارهم، رمال تتحرك نهارا، تقف ساكنة ليلا، رمال وظيفتها حمل العرب إلى وجهتهم، تُقبّل أقدامهم مع كل خطوة، الأرض أم الجميع، الأرض سطوح البشر عامة، البعض يشقى والبعض يسعد، حتى حبة الرمل لها سطوح بوظيفة.▪▪ هكذا تجتمع أركان الحب والعشق ومحاوره، تجتمع تحت أشعة الشمس وشعاع القمر، علاقات بين كل مكونات بيئة الفرد العربي، ذات مغزى وفائدة، بسبب هذه العلاقة، وجدت أفكارنا العربية، مسلكا لتبخيرها حول العالم، هل نستطيع جعل السطوح العربي مستمرا، سرمدي العطاء والفائدة؟! الأهم أن يظل السطوح عربيا نملكه، السطوح يحقق التطلعات التي لا تتوقف، في غياب «السطوح» يغيب العرب.▪▪ كان سطوح العرب مدرسة لها طلاب، لها أساتذة، لها خريجون مهرة، لها مكتبة ضخمة، لها محبون وكارهون، جاءت النّهاية، عشنا لنرى نهاية مجده على أيدينا، لقي مصير عباس بن فرناس، تحول سطوح العرب إلى ميدان، إلى ساحة لأهداف أخرى، سطوح لا يحقق الركض في ملكوته، نحتاج بعض الوقت للاستيعاب والإفاقة.* أكاديمي