أفيون التاريخ
لا تخطرن ببالك الغرابة من هذا العنوان، فأنت لو وجهت نظرة بطيئة (من غير سوء) الى التاريخ، لوجدت انه اشد فتكا من الأفيون، وما التقدم الذي تنعم به المجتمعات المتطورة الا بالنظر الى الماضي باعتباره بناء لم يكتمل، ولن يكتمل، وعلى المجتمع البناء عليه قدر طاقته، وما تخلف بعض المجتمعات الراكدة الا نتيجة الى النظر الى التاريخ كبناء مكتمل لا يجوز حتى البناء عليه. لقد أطال بعض مفكرينا التأكيد على ان أي معنى اجتماعي لا يمكن تجريده من التاريخ ومنهم العروي وابو زيد والجابري وأركون، وقبلهم ادونيس، أي إن التاريخ ليس ظرفا حاضنا للمعاني فحسب، بل هو أحد مكوناتها التي يقوم عليها سبب وجودها ومن تجاهل فعل التاريخ فمعناه: أن نهر السببية قد فقد مجراه عنده. وليس أكثر وضوحا من خطوات التاريخ في عالم الافكار والمفاهيم، وفي الحقل الوجداني.. إن الافكار التي يبدعها عصر ما، ويرثها عصر آخر، يعتبرها ثوابت ومقدسات، بل إن هذا التأثير يشمل العصر المنتج نفسه، فكثير من العباقرة نراه يكرر نفسه، وينكر ابداع العصر او الجيل الذي بعده. إنا وجدنا آباءنا على ملة ونحن على آثارهم مقتدون.. هذا ما قالته جميع الامم في وجه «التغيير» ولم تتخلص بعض الامم من هذا السجن التراثي الا بعد المرور بمخاضات فكرية موجعة، أما عالمنا العربي كله فيرى أنه سجن: «أتاه الربيع الطلق يختال ضاحكا من البشر حتى كاد أن يتكلما».لقد نشأت القبلية لضرورات جغرافية وعاطفية، وقد زالت تلك الاسباب الا قليلا، ولكنها في شبابها حتى الآن في بعض المجتمعات، إن تاريخنا كله تتحكم القبلية في سلوكه فحين احتل العرب مدنا أخرى ذات حضارات متقدمة، كان المحاربون من كل قبيلة يكونون لهم حيا خاصا بهم، وحين تذهب الى الحقل الوجداني فسوف تجد ما يدعك الى الضحك دعا، تجد شاعرا على ضفاف دجلة والفرات يبكي على الاطلال، وتجد آخر ولد ونشأ في ربوع الاندلس يتغزل بدارين او يتأوه على طلل.إن أبا نواس يعرف افضل من غيره ان الشاعر الجاهلي يعبر وجدانيا، وهو صادق، عندما يحمله الشوق الى ربوع حبيبته، فلا يرى الا «بعر الآرام في عرصاتها» ولكنه يحمل على ذاك المقلد البليد الذي:تصف الطلول على السماع بهاأفذو العيان كأنت في الحكموإذا وصفت الشيء متبعالم تخل من غلط ومن وهمويستنكر القبلية:تبكي على طلل الماضين من أسدلا در درك قل لي: من بنو أسدومن تميم ومن قيس وجرهماليس الأعاريب عند الله من أحدأترى أن أبا نواس سمع ابن خلدون، وهو بعد لم يخلق، يقول: «النسب أمر وهمي».