عبدالعزيز المحبوب

النمور الماليزية وقفزة الضفدع

تجربة ملهمة حظيت بزيارة تاريخية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز- حفظه الله-، خلال جولته الآسيوية مؤخرا، دولة قبعت في ويلات الفقر، ثم قفزت برؤية ثاقبة إلى عالم الاقتصاد الرائد، بقيادة ذلك الرجل «مهاتير محمد» الذي نقش اسمه في صفحات التاريخ بعبارته الشهيرة «إننا نعتبر أنفسنا في ماليزيا كأسلافنا المسلمين إبان العصر الذهبي، لدينا رؤية ومنهج أصيل ينسجم مع روح وجوهر الإسلام، لذلك كان لا بد أن نبدأ أولا بتحقيق النمو من خلال تطبيق مبدأ المساواة بين جميع الفئات والعمل على زيادة الناتج المحلي، وهو ما قُوبل برفض الغرب لنا كونه لديه إيمان راسخ بأن البقاء فقط للأقوى وأن الثراء من نصيب الأغنياء على حساب الفقراء». تسلم الطبيب مهاتير محمد وصانع النهضة الماليزية كما أطُلق عليه رئاسة حكومة ماليزيا عام 1981، إبان اعتماد اقتصادها على الزراعة وتصدير المواد الأولية: كالقصدير، والمطاط، وغيرها، حيث لم تتجاوز صادراتها المتواضعة 5 مليارات دولار عام 1980 قبل توليه زمام الأمور. هذا الوضع الاقتصادي الهش الذي كان يهدد مستقبل ماليزيا حدا بمهاتير أن يخرج من أسوار التفكير التقليدي، مستلهما قدرة الضفدع على القفز عشرة أضعاف طوله، ليعلن منها حركته التنموية المتسارعة التي غيرت ملامح الدولة، ووضعت ماليزيا في مصاف الدول الصناعية... نهضة عظيمة أطلق عليها شعار «قفزة الضفدع». أيقن مهاتير محمد أن النجاح لا يتحقق إلا على سواعد بلده، وأن التعليم هو المصنع الحقيقي لبناء الإنسان الفعال في هذا الحلم الذي يسعى له، حيث إن العادات الجيدة المكتسبة في سن الشباب تصنع الفارق كما يقول أرسطو، لذا وضع مهاتير جودة التعليم في أعلى سلم الأولويات، وحرص على إنشاء المعاهد والجامعات والمراكز البحثية، وكذلك ابتعاث الطلاب للدراسة في الخارج، وتحفيزهم على الإبداع والابتكار من خلال تبني أطروحاتهم وأفكارهم وتحويلها إلى مشاريع حقيقية تنفذ على أرض الوطن، وبناء السلم الوظيفي المحفز أمامهم للصعود والارتقاء. لذا، نجد ماليزيا أرضا حاضنة للتنمية البشرية ومقصدا للمستثمرين في هذا المجال من خلال إقامة العديد من الملتقيات العملية والتدريبية التي يشارك فيها المهتمون من الخليج والوطن العربي. وقد تمكنت منهجية مهاتير المبنية على استثمار رأس المال البشري والمواهب لديه من تحويل الماليزيين إلى نمور آسيوية بالاستفادة من التجربة اليابانية التي استلهمته كثيرا في التنمية. لقد كانت ماليزيا تواجه فجوة طبقية، جعلت حصة السكان الأصليين الملايو المسلمين في ذيل التصنيف مقارنة بالأعراق الأخرى التي تمثل السكان وهم الصينيون والهنود، حيث استطاع رفع حصة الملايو من الدخل والثروة الوطنية إلى ما يقارب 30%، أي بمتوسط دخل قدره 8862 دولارا في عام 2002 متجاوزا بأضعاف المتوسط في عام 1970 الذي كان 1247 دولارا للفرد. كما تمكن مهاتير من إذابة الفوارق في المعتقدات الدينية والتعايش السلمي المتناغم في مزيج جديد واحد تبنته جميع أطياف الدولة، وأدركوا بوعي عميق دورهم البارز فيه وهو نهضة وتطوير ماليزيا. هذه العجلة السريعة والوثبات العالية في التطوير بدأت بإصلاح البيت من الداخل، حيث أطلقت العديد من المبادرات النوعية لمحاربة الفساد وخفض البطالة والإصلاح الإداري بالإضافة لتحسين البنى التحتية والمرافق العامة والبيئة، كما تم إنشاء شبكات الطرق والمواصلات والاتصالات وغيرها من المبادرات. أما برامج الخصخصة فقد تعددت وتم التوسع فيها وتحويل المشاريع العامة إلى ملكية الأفراد والمؤسسات الماليزية الخاصة لتخفيض الدين العام والعجز في الموازنة. أفرزت قفزة الضفدع عن نمو هائل في الاقتصاد الماليزي، وتحسن صادراتها إلى 100 مليار دولار عام 2002، وتنوع مصادر الدخل في مجالات عدة، فقد كانت الصناعة أهم المقومات لدعم اقتصادها مثل صناعة السيارات التي تشكل 80% على طرقها والحديد والصلب والنسيج والإلكترونيات وغيرها مما وضع ماليزيا ضمن مقدمة الدول الإسلامية الصناعية. ويأتي أيضا النفط بالإضافة للسياحة التي تميزت بها وأصبحت خيارا رئيسا لدى السائحين المسلمين؛ كونها مركزا إسلاميا مهما، ولتمسك شعبها بالهوية الإسلامية في سلوكهم وتعاملاتهم، وكذلك مقصدا للسائح الأجنبي لسحر وجمال الطبيعة من جهة أخرى. ختاما.. أقول إن التجربة الماليزية وفي حقبة مدتها 22 عاما من قيادة مهاتير محمد استطاعت أن تجدد الحياة وترفع الهمم وتلهم العالم في قدرتها على إضاءة طريق الريادة في صفوف المقدمة لمن يريد أن يحذو حذوها ويقتدي بنهجها... ولتعمل مؤسساتنا كافة على توظيف قدرات الإنسان الكامنة واستثمار اقتصاد الإلهام لتكون بلادنا نموذجا ناجحا ورائدا في العالم على كافة الأصعدة، داعمين مسيرة قائدنا الذي سيعمل معنا على تحقيق ذلك.