الصحة وإنسانية 937
اخترعتْ الأنظمة السياسية في تقديري فكرة حكومات التكنوقراط للخلاص من ندرة العناصر الإنسانية القادرة على إدارة مؤسساتها، لتأتي بالمؤهلين من المتخصصين إلى سدة الإدارة لقيادتها بشكل آلي، ووفق معايير التخصص، وبعيدا عن أي عاطفة، وهي فكرة محايدة ومقنعة إلى حد ما، تشبه كثيرا فكرة التعامل مع الكمبيوتر الذي يعامل الجميع على مبدأ المساواة وفقا لما يحتويه من مدخلات. وحسابات النجاح التي ينجزها التكنوقراط غالبا لا تكون لها أي معايير عاطفية، لأنها تعتمد على جانبين: وضوح النظام ودقته هذا جانب، ثم عدالة تطبيقه على الجميع، وهو إن كان يُرضي الأكثرية إلا أنه يسقط الحس الإنساني، ويحوّل المسؤولية إلى مادة جامدة، لذلك حينما تلتقي الانسانية مع معيار التكنوقراط، وهي حالات نادرة فإنها تنجز ما لا يخطر بالبال، فعلى سبيل المثال الدكتور توفيق الربيعة هو أحد التكنوقراط الذين دخلوا الوزارة وأبلوا فيها بلاء حسنا، عندما استرد دور وزارة التجارة الذي لم يكن يتذكره أحد، وجعلها وزارة للمواطن بدرجة امتياز، الرجل لم ينجح بتكنوقراطيته فقط، وإنما نجح بها وبإنسانيته التي جعلته يستشعر آمال وآلام المواطن ويبني محددات عمله وقراراته عليها، وحينما ترك التجارة باتجاه الصحة راهن الكثيرون على فشله بحكم أنها الوزارة المثقلة بالكثير الكثير من التراكمات والإخفاقات الكفيلة بضرب أي طموح وأي امكانية للإصلاح، مضافا لذلك أنه أتى إلى هذه المثقلة في ظرف اقتصادي صعب سيحد كثيرا من قدرته على العمل كما يتمنى، لكنه أسقط ذلك الرهان بإنسانيته أيضا عندما ركز على ما يلامس مشاعر الناس وهواجسهم، ورعايته لمبادرة مركز 937، وتطوير الفكرة، ودعمها بأطباء الطوارئ والمتخصصين، ووضعها في خدمة المواطنين على مدار الساعة، واستقطاب تلك المناشدات التي كانت تبثها وسائل التواصل الاجتماعي لإنقاذ بعض الحالات، هذه الخطوة لامستْ هاجسا حساسا لدى عامة الناس، وأشعرتهم أن هنالك جهة حاضرة معهم في نفس لحظة الطوارئ تجيب عن تساؤلاتهم، وتدلهم إلى أين يتجهون، وما يجب عليهم أن يفعلوه، وهو ليس مجرد مركز استعلامات كما فهمت، وإنما أيضا مركز استشارات طبية، ودليل آلية خدمية للحالات التي غالبا ما لا يجد لها أصحابها سوى قنوات اليوتيوب أو الواتس آب.إنه الفرق بين العمل بآلية التكنوقراط، وأنسنة التكنوقراط.