أن تغادر نفسك
أن تسافر، أن تتخلص من رتابة حياة الأعمال اليومية وضغوطها، تتكرر بايقاعات حتى الاشباع. البعض يسافر بالهروب إلى المواقع القريبة، مثل الأسواق المغلّفة، والاستراحات والمقاهي. هناك من يطوي نفسه ويحملها إلى شاطئ البحر، أو إلى الشاليهات السعودية الجافة، اختراع سعودي يجذب ولا يطرد. البعض يهرب إلى اختلاق المشاكل في البيت؛ ليتخلص من خيمة (منلوج) مكانك راوح. السفر متعة من اللحظات الأولى، يبدأ بالأمل، ثم تتوزع الأدوار بين الطموحات والتخيّلات والأماني. البعض يسافر بنفسه خارج الحدود، يغادر بقوالب السلوكيات والتصرفات. يصبح فرجة الآخرين، لكنه يجد الآخرين يعرضون أنفسهم للفرجة مثله. تبادل للأدوار والمنافع والتعليقات. يعود يحمل حقائب غير مرئية من الانطباعات. يظل عاما كاملا يخوض في محتواها. بالنسبة لكاتبكم السفر يعني أن أغادر نفسي، كنتيجة امتنع عن السفر الخارجي، لكن ماذا عن السفر الداخلي؟! هذا ميداني المكسور ظهره أيضا. وأتعجب من بعض المسافرين إلى دول بعينها، يقولون بشرائهم شققا في تلك البلدان، وبأسعار في متناول اليد. بعضهم يقول بشرائه بيوتا. بعضهم يفكر في الهجرة إليها. بعضهم، (وشخصي منهم) يعيش حالة صراع لينتهي به المطاف إلى لا شيء. يوم الثلاثاء الماضي سافرت إلى منطقة الباحة، أحمل معي صناديق من الآمال، كنتيجة جعلت منطقة الباحة كتابا مفتوحا من تأليفي، كتاب لا يراه أحد غيري، وبدأت حال وصولي مطار العقيق، تصفح هذا الكتاب الموسوعة، طبعا الكتاب يحمل صورا بالأسود والأبيض، وهناك صور بكل الألوان، أهمها اللون الحنطي، لون بشرة أهل منطقة الباحة. حاليا لا أعتبر نفسي من أهل منطقة الباحة، حذف بي تيار التغيير لأصبح كالضائع، كما ورد في أغنية (وديع الصافي) الشهيرة، فأهل الأحساء يرونني (جنوبيا)، وأهل الباحة يرونني (حساويا). هكذا أصبحت بأكثر من عنوان، وأكثر من لون وطعم ورائحة. كنتيجة أجد نفسي مناخا مهيأ للتأليف عن كل شيء، وقد جعلت الأحساء كتابا بعنوان: الأحساء ذاكرة التعايش. مع وصولي مطار العقيق استقبلني المطر، استقبلتني السماء بالغيوم، استقبلتني الأرض بجبالها السمر. بدأت أبحث في هذه العناصر عن أشياء لا يراها أحد غيري. وجدت درجة الحرارة (17) درجة مئوية في الساعة الثامنة مساء يوم الثلاثاء في مدينة بلجرشي، والمطر منهمر تساءلت، لماذا لا يسافر الناس إلى مناطقنا المطيرة؟! بدأت السباحة في التوقعات والاحتمالات. استعرضت محتوى نفسي، فوجدت كلمة واحدة تهتف بقربي: (الغباء). لا تسألوا لماذا؟! صراع العيش مع طقوسي الكثيرة أثناء التفكير، يقود إلى صعوبة التوقع بما سأقول وأفعل. أشياء تأتي على غير العادة، وهكذا جاءت كلمة (الغباء) تتراقص أمام عيني، فالتقطتها برفق، كصيد نافر الريش، ثم أسكنتها قفص الادعاء والتبريرات، ثم جعلتها وعاء يحمل عطاء الأجوبة والتساؤلات وعلامات التعجب. تساءلت مع تلك الكلمة اللمّاحة المهذبة، لماذا لا تكون هناك خطة وطنية لبناء أبراج سكنية للاستثمار في مناطقنا المطيرة؟! تحوي شققا صغيرة، يتم بيعها للمواطنين بأسعار مناسبة، الهدف قضاء إجازاتهم في مناطقنا الباردة والمطيرة. حتى أهلها سيجدون أنفسهم يمتلكون شققا لقضاء إجازاتهم، بعيدا عن البناء العشوائي، وتدمير البيئة، واجتثاث الغطاء النباتي. يمكن أن يكون استثمارا حكوميا. لماذا تستثمر الدول الأخرى في بناء مثل هذه المشاريع السكنية؟! ثم تبيعها حتى على السعوديين، تجذبهم عنوة وتستضيفهم مصلحة. كان الكلام السابق جزءًا من الباب الأول الذي انتهيت من تأليفه عن منطقة الباحة. بقي من الكتاب الكثير، انتظروني لا تسافروا.