لماذا أكتب؟
لا -1-أحد يسأل مثل هذا السؤال قبل أن يولد في حضن الكتابة، قبل أن يتعرف على ملامحها أو حتى يتصور مجرد تصور ذهني أنه سيكون كاتبًا يومًا ما. لا أحد يقول لنفسه: أريد أن أكتب الآن ثم يهدر مثل ماكينة ويكتب. كيف يمكنك أن تكتب وأنت لم تعش حياة القلق والتفكير والتأمل التي تجلبها إلى عالمك القراءة؟ كيف يمكنك ذلك وأنت لم تضرب الأرض بعصاك طولًا وعرضًا، ولم تأخذك قدماك إلى حيث المغامرة والضياع في متاهات الغابات الكبرى للعالم؟ ما قبل الكتابة لا يكون المرء نفسه ما بعد الكتابة، ثمة فراغ شاسع بين ما قبل وما بعد، بين الحياة في الكلام وبين الحياة في الكتابة، الأولى امتلاء بالطبيعة والعالم والتجربة الاجتماعية والأخرى استرجاع لهذا الامتلاء عن طريق الخبرة الكتابية، والسؤال «لماذا أكتب» حتما لا تعني المرء حين يعيش حياته ما قبل الكتابة. حدود إجابة السؤال عنده دائما ما تقف على حواف الحرف الأول في حياته الكتابية وكأنه ذلك الطفل الذي يدرب لسانه على لفظ الحروف ونطقها. الحدود دائما ما تكون غائمة وضبابية إذا ما أراد أحدهم أن يتلمس بيديه الخط الفاصل بين ما قبل الكتابة وما بعدها، وحتى إذا تلمس الكاتب جزءا منه، فإنه سوف يخيفه سواء بقصد أو بدونه؛ لأن الخوف من انفضاح السر في توجهه للكتابة هو الذي يتحكم في أسلوبه الكتابي، الخوف الذي يجعله عاريًا أمام الآخرين هو فكرة مرعبة تؤرق أي كاتب، لذلك التورية والمجاز والاستعارة هي الأسلحة المدفونة في عمق الذات ولا تعمل بكامل طاقتها إلا في المآزق والمحن إذا ما تعرضت لغة المرء للتضييق والاختبار. -2-أعود إلى السؤال نفسه بعد أن ركزت على معنى كون الكاتب يمر بحياة ما قبل وما بعد الكتابة. يقول أمبرتو ايكو فيما معناه سأظل أكتب حتى لو كنت متيقنًا غدا سأموت ما دام في ذهني قارئ متخيل. ويقول رولان بارت «أكتب لأن الكتابة تخلخل الكلام وتهز الأفراد والأشخاص وتقوم بعمل نعجز عن تبين مصدره». كلا المفكرين ينطلقان من اللغة بوصفها أهم الدوافع ليس للكتابة فقط، وإنما للمعنى الذي يعطيه الإنسان لحياته، والمعنى دائما ما يحتاج إلى تأويل والتأويل يحتاج إلى لغة مبتكرة واللغة المبتكرة تحتاج إلى قوة المخيلة. لذلك النظر إلى اللغة من منظور وجودي هو الذي يعطي للغة عند المفكرين موقعيتها وأهميتها، وهذه احد مرتكزات الفكر الغربي. ومن يقرأ هاتين الإجابتين في سياق تطور الفكر الغربي في علاقته بتطور الدراسات والنظريات اللغوية في حقل العلوم الإنسانية يدرك الانسجام التام في هذا السياق. لكن حينما يطرح السؤال «لماذا أكتب» على الكتاب في سياق الثقافة العربية ترى كيف تكون الإجابة؟ أليس الأولية تكون البحث عن الحرية الاجتماعية والفكرية والإبداعية وما عداها سوى لعب بالألفاظ؟!