د. مشاري النعيم

المدن الصغيرة «الفاضلة»

هناك من يؤكد أن المدن الصغيرة هي مدن سعيدة، رغم أن مصطلح «مدن سعيدة» غير مرغوب فيه في عالم «التصميم الحضري»؛ لأنه مصطلح خيالي غير واقعي وينحى إلى المثالية غير العلمية، حتى أنني عندما تحدثت عن كتاب Happy City لمنتغمري قبل عامين انتقدني بعض الزملاء المهتمين بالمجال الحضري وأكدوا أن فكرة «المدن السعيدة» هي نفسها فكرة أفلاطون والفارابي حول المدن الفاضلة، وهي فكرة ليس لها وجود في الواقع. وقبل عام نظم الزميل الدكتور صباح مشتت (وهو أستاذ سابق للعمارة في جامعة ولفرهامبتون الإنجليزية) مؤتمرًا عن المدن السعيدة والمتسامحة في عجمان ودعاني لهذا المؤتمر ولم نخرج بتعريف حقيقي لماهية السعادة المدينية لكننا تعرفنا على عنصر أساسي يمكن أن يؤدي إلى السعادة وهو التسامح، ويبدو لي أن ربط فكرة «تجريدية» وهي السعادة مع مكون مادي وهو «المدينة» تواجهه صعوبات شتى؛ لأن المدينة يفترض أن لا تكون سعيدة أو حزينة، متسامحة أو متشددة، بل ان من يصنع السعادة والحزن والتسامح والتشدد هم الناس الذين يسكنونها، وغالبا ما تكون سلوكيات الناس نسبية ومتغيرة وبالتالي أي صفة للمدينة هي صفة مؤقتة.هذا كان رأيي، على الأقل عندما كنت أسير بالقرب من الميناء القديم في العاصمة الدنماركية «كوبنهاجن» Nyhavn مع الزميل الدكتور محمد المحمود، وقد أصبح طريقًا للمشاة عام 1977م، وكنت مصرًا على أن فكرة السعادة المدينية لا تتحقق عمرانيًا بل سلوكيًا. الدكتور المحمود مهتم بالبحث في «المدن السعيدة» وهو يعمل على مشروع بحثي كبير في «كوبنهاجن» في هذا الموضوع، وأكد لي أن هناك خصائص عمرانية مادية تؤدي إلى توجيه السلوك الإنساني نحو السعادة، وأن الاتحاد الأوروبي مهتم جدا بدراسة العوامل التي تحقق السعادة المدينية، وأن رفض البعض لهذه الفكرة التجريدية يعتبر مقاومة داخلية لإبقاء التوجهات التقليدية للتصميم الحضري، وقال: كوبنهاجن مدينة صغيرة وسعيدة من وجهة نظري، أنسنة المدينة بدأت منذ عام 1962م عندما تحول شارع «ستروجت» Stroget إلى طريق مشاة فقد غيرت هذه الخطوة علاقة الناس بعناصر مدينتهم وجعلتهم أكثر قربًا منها. أكدت له أن مفهوم السعادة لدي يختلف عنه لديك، فأنا أرى «كوبنهاجن» مدينة صغيرة وكئيبة، الناس تختفي من الشوارع عند السابعة مساء، وتبقى مناطق محدودة تسامر الليل. كنا قد وصلنا إلى زقاق صغير اسمه «ستردت» Straedet على طرفه ممر مشاة والمقاهي تمتد في هذا الممر وفي الوسط ممر آخر صغير للسيارات وفي الطرف الآخر مسار للدراجات. الزقاق صغير جدا لكنه منظم والكل يمارس نشاطاته بهدوء حتى مواقف السيارات مبتكرة. علق الزميل بقوله: هذا من أكثر الأماكن في المدينة راحة، مكان واقعي يجمع كل وسائل الحركة لكنه في غاية الإنسانية. ردي ربما كان محبطًا نوعًا ما فقد قلت له: يظهر لي أن محاولة مقاربة «السعادة» عمرانيًا حلم يراود الإنسان منذ القدم ولم يستطع أن يحقق هذا الحلم وربما لن يستطيع تحقيقه ولكن قد يقترب منه. السعادة ليست كالذكاء، فالمدن الذكية ممكنة لكن المدن السعيدة فيها وجهات نظر كثيرة. أنا لست ضد فكرة «المدن السعيدة» حتى لو كانت صغيرة و «فاضلة» كما قد يراها البعض، وحتى لو كانت منظمة وآمنة كما قد يعتقد البعض، لأن السعادة ببساطة شيء كامن في نفس الإنسان وعقله وليس في جدران المدينة وشوارعها. ما يحيرني دائما هو أنني أقرب إلى الإيمان بوجود مدن «حزينة» أكثر من المدن السعيدة، فتحقيق الحزن وصناعة «التعاسة المدينية» أمر يسهل تحقيقه ونراه ماثلًا أمام عيوننا كل يوم، لكن الوصول إلى مدينة سعيدة ومثالية لا أعتقد أنه أمر ممكن. لعل السؤال المهم هو: لماذا لدينا قدرة على خلق الحزن والتعاسة ويصعب علينا تحقيق السعادة؟