خالد الخضري

عبدالحي

عندما هطل المطر أحس بسعادة مفرطة، خرج فرحا، منطلقا إلى الشارع يركض كالأطفال فارداً ذراعيه، باسطاً يديه للمطر بعد أن أزال كل تلك الملابس المعيقة لطموحه في أن يبلل المطر كافة أطراف جسده . هكذا يجعل الرأس عارياً، والصدر كذلك، ويظل فقط بسروال متهالك، يركض ويركــض خلــفه الأطفال وهــم يتضاحكون ويصرخون : ـ المجنون جاء، شوفوه، الحقوه ينطلقون خلفه، فيستثيرونه كي يعود إليهم، ويهجم عليهم بعشوائية، كي يبعدهم عن طريقه، يسارع الأطفال إلى قذفه بالحجارة ويرددون كلمات لا يفهم معناها تستثيره كثيراً، فينطلق خلفهم كثور هائج دون إدراك لما يمكن أن يحدث بعد ذلك . الأطفال يحاولون الاختباء خلف أحد الجدران كي لا يراهم المجنون، فيما حاول أحدهم التسلل من خلف الجدار أثناء مرور عبدالحي منطلقاً نحوه بسرعة مذهلة ليحثوا على رأسه بقبضة من تراب ويفر هارباً . أحس عبدالحي بالضيق صرخ بعد أن أزال ما علق على رأسه، محاولا مسح عينيه، كي يتمكن من مشاهدة ما أمامه، في تلك الطرقات الضيقة . يندفع راكضاً نحو ذلك الطفل لكنه لا يتمكن من اللحاق به . عبدالحي يسكن هذا المنزل البسيط، المتواضع، وهؤلاء الأشخاص الذين يقطنون معه، يعرف جيدا انهم أهله، يشعر بحنانهم، برأفتهم، بالعلاقة الحميمة التي تربطهم به، مما يدعوه إلى أن يعود إليهم عقب غروب الشمس، بعد أن يشعر بالإنهاك جراء حركته بالحي طوال النهار . المطر متعة قليلة الحصول، هو يتمنى أن يستمر ، لكن هؤلاء الأولاد يحرمونه الاستمتاع بقطراته التي تهبط ( من عند الله ) كما يسمع ذلك من أهله دوماً، مياه الأمطار تغسل الشوارع وتغسل جسده الكبير الذي أدرك انه اصبح جسداً ضخماً، بعد زمن لا يدري كم هو . يحمل هذا الجسد، ينقله معه أينما ذهب، ويدرك انه يحب أن يحميه، كي لا يشعر بالألم والعذاب لو مسه مكروه . انطلق في طريقه إلى السوق، لاحظ ازدحام الناس، يحب هذا المكان ظل يتواجد فيه اغلب الوقت، تعلم وأتقن كيف يلبس الشماغ ويربطه بإحكام حول رأسه حتى لا يسقط عندما تهب ريح مفاجئة.يتوارى دوما من هبوب الرياح، يلجأ إلى أحد الأرصفة بجوار حيطان العمائر، يغطي عينيه من الغبار الذي كثيراً ما يؤدي إلى احمرارها، مما يشعره بألم فيها، ثم تصبح الرؤية معتمة تماما . في ذلك المكان الذي يتجمع فيه عدد كبير من الناس، يشاهد معروضات كثيرة، بعض المشترين يقوم بأخذ شيء من تلك المعروضات، ثم يقوم بإعطاء البائع ريالات، تلك التي تجلب له ما يريد، من عصير وماء، وحلوى، وأكلة شهية أحيانا . فجأة هبت ريح عاصفة، حاول أن يتوارى عنها إلى جوار أحد المحلات، الرجال يحاولون حمل تلك المعروضات بسرعة داخل المحل، يرغب في أن يدخل معهم ليتحاشى الغبار والأتربة، لكن الضيق والازدحام لم يمكناه من ذلك . بدأت السماء في إرسال زخات من المطر، فبدا فرحا جدا، يركض ويصيح، كما يفعل الصبية، فاتحا يديه إلى الأعلى مستقبلا قطرات المطر ببشاشة، جلس إلى إحدى الربوات القريبة، وظل فاتحا يديه ومغمضا عينيه، أنزل رأسه إلى الأسفل حتى التصق ذقنه الكثيف، الأشعث، بصدره، هيأته الرثة تلفت أنظار الآخرين، وهو هكذا مغمضا عينيه كي يتقي هبوب عاصفة قادمة، فجأة أحس بشيء ألقى في يده، وما أن فتح عينيه حتى اكتشف أن أحد المارة ألقي في يده اليمنى " ريالات " شعر بالفرح، قام على الفور متجها إلى أحد المحلات ليشتري بسكوتا. وفي طريقه شاهد أحد كبار السن واقفا بجوار المسجد، ماداً يده يتلفظ بألفاظ فيعطيه الناس ريالات ، ظل يقترب من ذلك الرجل بسذاجة وهو يتأمل تصرفاته، صاح به العجوز : ـ وشبك يا ولــــــــدي ، الله يهديـــــنا ويهديك، روح نظف نفسك وحسن لحيتك . عبد الحي، ظل صامتا، لا يعرف ماذا قال بل استمر يبحلق في ذلك الرجل بدهشة . ظهر أحد الأولاد، وقف الولد في انتظار بقية الخارجين من المسجد، ظل الولد يردد : ـ الله كريم ، بابا مسكين وهو ماد يده . ظل عبدالحي يتأمله، ويقترب منه، محاولا أن ينطق نفس الكلمات ، وقف إلى جواره، مد يده بنفس طريقة ذلك الولد، بدأ يردد : ـ الله كريم، بابا مسكين ، الله كريم