صحيفة اليوم

حوار الحضارات على ضوء الخطاب الاسلامي '2/2'

انتهى حديثنا في الجزء المنشور امس من هذا الموضوع عند الحوار التامونكمل الان بالحوار الناقص ومضامين اخرى تتعلق بهذا الموضوع فما الحوار الناقص؟هو الذي يفصل بين مجالي التعامل البشري النظري والعملي فصلا يزيل التطابق بينهما (وتلك هي علامة الزيف او النفاق) ويكون عادة بين غير المؤمنين، انه التواصل الحواري الذي يقصد التعمية عن الحقيقة لتحقيق المخادعة بين المتحاورين ولنسمه حوارا جحوديا، وهو قد يصبح مطلق الجحود اذا لم يكن بداية مشدودة الى الغاية، فيصبح بداية بلا غاية، ذلك ان هذا الحوار يدعي العلم المحيط بكل اصناف المعرفة، فلا يحق للمؤمنين استعماله بهذا الاطلاق حتى مع الاعداء لتنافي اخلاق الغدر مع الايمان فالمكر المباح بل حتى المكر الواجب في الحروب مع الاعداء لا يكون غادرا ومخادعا لكونه يستهدف الحيلولة دونهما ولولا ذلك لما نسبه الله الى نفسه (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).لذلك كانت الحضارة الاسلامية حضارة تضع قوانين انسانية للتعايش بين الملل، وللعلاقات الدولية حتى في حالة الحرب، وبذلك يتضح ان جوهر الدعوة الدينية السليمة من التحريف عامة والرسالة الاسلامية خاصة يتمثل في الحوار المتواصل بين كل ابناء ادم لتحقيق رسالة الاستخلاف، لذلك كان الاسلام دعوة دائمة للحوار مع اهل الاديان الاخرى من منطلق البحث المشترك عن الحقيقة للعمل بها وارجاء الفصل المطلق بينهم الى يوم الدين.. فالمطلوب ليس حوارا بين الحضارات بل حوارا بين البشر لتجاوز ما تتنافى به الحضارات سعيا الى تحقيق الاخوة الانسانية ذلك ان الحوار الحقيقي لا يجري بين الحضارات ولا ضمنها بل هو حوار بين البشر يتوسط مافي الحضارات من صور الى التجاوز الذاتي نحو ما يتعالى عليها لذلك فقد اعتبر القرآن الكريم التعدد الحضاري والعقدي مقصودا ومرادا لكونه شرطا واجب التدافع من اجل الامتحان لمعرفة من يعمل بالتواصيين.لكن الحوار التام الذي هو واقع بين المؤمنين يمكن ان يصبح مثالا اعلى للحوار بين الملل المختلفة عندما تصبح غايتها طلب الحقيقة والعمل بها مثل المؤمنين التواصي بالحق والتواصي بالصبر، كما ان الحوار الناقص الذي هو واقع بين الملل المختلفة يمكن ان يصبح مثالا ادنى بين المؤمنين عندما يحيدون عن طلب الحقيقة مثل غير المؤمنين.ولما كان ضربا الحوار قابلين للحصول في الملة الواحدة، اذ قد ينحط حوار التعارف الى مجرد حوار للتعايش عندما يبتعد طرفا الحوار المؤمنين عن التواصيين او بين الملل المختلفة اذ قد يسمو حوار التعايش الى مستوى حوار التعارف عندما يقترب طرفا الحوار غير المؤمنين من التواصيين بات من الجواب ان نعتبر الضربين درجتين من مفهوم اشمل للحوار يكون حوار التعايش بدايته وحوار التعارف غايته والحوار بهذا المعنى الاشمل هو عينة جوهر الدعوة الدينية بدرجاتها المختلفة التي اكتملت في الرسالة الخاتمة لذلك كانت الدعوة الاسلامية الاداة التي تحرر الانسان من الرد الى اسفل سافلين لتحقيق الاستثناء منه اعني العودة الى التقويم الاحسن الذي تمثله الفطرة الانسانية اساس الاخوة او وحدة البنوة لادم التي هي مناط اجتباء الله للانسان نفيا لنظرية الشعب المختار بما في ذلك درجته الدنيا وخلاصة القول ان للحوار مدلولين:1 ـ جحودي ناقص لكون الحقيقة والعمل بها فيه ليسا مطلوبين لذاتيهما بل هما من اجل الباطل والعمل به.2 ـ وشهودي تام لكون الحقيقة والعمل بها فيه مطلوبين لذاتهما وليسا من اجل الباطل والعمل به.فاما الناقص هو حوار المخادعة وهو الحوار الجامع بين متناقضين هما مصادقة الذات لمخادعة الغير تسليما بالتنافي المطلق بين البشر بمقتضى رد الافق الكلي الى الافق الجمعي في الموقف الجحودي.واما التام فهو حوار المصادقة المتحرر من الجمع بين متناقضين مصادقة الذات لمصادقة الغير ايمانا بالاخوة الانسانية في الموقف الشهودي.اخطار الحوار:لا ريب ان اية عملية اجتماعية كبرى تنطوي على ما يساوي حجمها من الاخطار اذا لم يكن لدى القائمين عليها تصور واضح للماضي والحاضر والمستقبل ولم تكن لديهم آلية واضحة لتنفيذ هذه الاخطار تكمن بالدرجة الاولى في دخول عناصر لا يروق لها هذه الحالة الحوارية المتعقلة الانسانية لان مصالحها تقتضي الاستعلاء والهيمنة والبطش وتقتضي دفع الاخر الى الاحساس بالدونية والانقياد.لو اخليت الساحة للشعوب لدخلت مع بعضها في حوار يستهدف تحقيق مصالحها الانسانية ولحلت مشاكلها عن طريق التعارف والتفاهم ولكن القوى المتجبرة ترفض الندية في الحوار وتسعى لدفع الاخرين الى تعميق الاحساس بالهزيمة النفسية ولا جدوى للحوار اذا كان احد اطرافها مهزوما نفسيا.من هنا لابد من ابعاد المهزومين عن ساحة الحوار كما لابد من بذل جهود علمية وثقافية مكثفة لاستجلاء فضل الحضارة الاسلامية على البشرية وما يمكن ان يقدمه المشروع الاسلامي لانقاذ البشرية من مآسيها وويلاتها المعاصرة.ان العالم اليوم يواجه مسألة العولمة، والعولمة تشق طريقها من غير ارادتنا، والعولمة تحت شعار توحيد الثقافات تستهدف ازالة التنوع الثقافي والعولمة وان اتخذت مظهرا اقتصاديا فهي ذات جانب ثقافي اهم بكثير واذا حققت اهدافها في النهاية فسيكون لها ابعاد مرعبة ولو فرض ما يسمى بالتوحيد الثقافي لم يبق ثمة مجال للحوار ذلك ان شرط الحوار هو قبول التعددية قبول حق الاختلاف والحرية والتعقل.فالحوار يعني الوصول الى ادراك مشترك عن طريق تبادل المعاني والافكار لذلك فان اي تيار واية مؤسسة ترفض هذه الشروط فانها تعمد الى سد طريق الحوار.اذا فالحوار طريق ملىء بالتعرجات ولا يمكن الحصول على نتائجه بسرعة وثمة موضوعات مختلفة مثل الدين، الاسرة، مكانة المرأة، البيئة الطبيعية، وهي من المسائل التي تدخل في حيز الحوار، وعلى هذا الصعيد لابد من تعيين الاولويات وتشخيص الاخطار والتهديدات المشتركة والتوصل الى الاليات المشتركة باعتبارها من المراحل المختلفة لحوار الحضارات.اسئلة تتطلب الاجابةبقي ان اقول ان طريق حوار الحضارات ليس بواضح المعالم فالمنعطفات فيه كثيرة والاسئلة المطروحة ضمن مساره كثيرة ايضا. ولعل كثرة الاسئلة تعود الى حداثة التجربة فالتاريخ مفعم بصور الصراع والغلبة والاستيلاء، ولم يسجل لنا التاريخ تجربة عن دخول الامم في حوار حضاري اللهم الا ما كان بعيدا عن علاقات المؤسسات الحاكمة ومنها صور علاقات التفاعل بين الشعوب الاسلامية وبين شعوب ما يسمى بطريق الحرير الذي يبدأ من حلب مارا بانطاكية الى بلاد ما وراء النهر.. ولعل اول سؤال يطرح في مسار حوار الحضارات، هو ما معنى الحضارة؟فالمصطلحات الرائجة في في هذا الحقل مثل المدنية والثقافة والحضارة غير محددة في كل اللغات وللحضارة وحدها تعاريف كثيرة جدا واذا اكتفينا بما تلقيه كلمة حضارة في الاذهان وهو (تقدم المجتمع البشري) فهل تقدم المجتمعات البشرية في الحقول المادية حضارة؟ هناك من يرفض ذلك ولعل المنطق القرآني ايضا يرفض ذلك فالبناء المادي مرفوض اذا لم يكن قائما على اساس معايير انسانية، او على معايير التقوى بالتعبير القرآني (اتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، واذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله واطيعون) الشعراء 128 ـ 131.فالقوة المادية تكون سبب البطش والتجبر اذا لم تكن مقرونة بقيم انسانية ذات رصيد ديني وهذا مشهود في التاريخ وفي حياتنا الراهنة. والمجتمع المتحضر وفق هذا المفهوم هو المجتمع القائم على اساس قيم انسانية ذات رصيد يوفر لها الديمومة والبقاء والثبات والموضوعية وليس ثمة رصيد في هذا المجال سوى الدين.والسؤال الاخر المطروح في هذا المجال عن آليات التنفيذ، كيف نبدأ؟ ومن اين نبدأ؟ ومن يحاور من؟ وكيف نبني اساس لاستمرار هذا الحوار؟وبعد فالسؤال الاهم عن جدوى هذا الحوار فهو جاد حتما على صعيد الشعوب كي يفهم بعضها بعضا ولكي (تتعارف) بالتعبير القرآني ولكن هل هو جاد على صعيد القوى التي لا تفكر الا بمصالحها المادية؟ ثم هل تستطيع الشعوب ان تتخلص في تفكيرها وقرارها من هيمنة القوى المتجبرة؟هل مسيرة التاريخ تتجه نحو سيطرة الشعوب على مقدراتها؟ واخذها بزمام الامور وبلوغها مستوى من النضج الفكري والعقلي والعاطفي يؤهلها لاحلال علاقات حوار بدل العلاقات القائمة اليوم على اساس البطش؟هذه الاسئلة وغيرها تستطيع ان تكون محور بحث ودراسة ضمن اطار حوار الحضارات. اخلص الى القول: ان طرح مسألة حوار الحضارات في الامم المتحدة والمصادقة على المشروع في اعلى المستويات التنفيذية الممكنة وعدم طرحها في مؤسسة تابعة كاليونسكو يدل على تعدد الجوانب في اهمية المشروع ولابد ان تشق النظرية طريقها في الساحات السياسية والاقتصادية والثقافية. د.علي ابراهيم الناجم استاذ مشارك بجامعة الملك عبدالعزيز