صحيفة اليوم

مقاومة العدم*

(إمبارح راح فين) ؟ انه أول تساؤل طرحته على نفسي، أول استفسار تردد في أفق وعي البكر، الحركة في المكان تعني البدء من جهة والانتهاء في جهة ، قيام ثم وصول، هل يمكن ذلك في الزمن ؟ لا أقصد المدة التي تستغرقها الحركة، ولكنني أعني الوصول الى لحظة منقضية، مولية. إذ يممت وجهي شطر جهة معينة، نقطة ما، وقطعت مسافة ما. بسرعة ما، هل يمكنني الوصول إلى لحظة منقضية جمعتني بمن أحب، أو عرفت فيها ما يسرني؟ شغلني الزمن الذي لا يمكن تفسيره أو إداركه، كنا اسرة متضامنة، متقاربة، يكدح والدي الذي قدم من الجنوب في رحلة عاتية فصلت بعضا منها في (كتاب التجليات) ليوفر لنا التعليم الذي حرمته الظروف منه، والأمن والحياة الكريمة، وكنت إذ أصغى إلى الآيات الكريمة. (إمبارح راح فين) ؟ الأحد ، الاثنين اليوم الثلاثاء، أين ذهبت الأيام المولية؟ أين اختفت ليلة الأمس؟ بل أين اللحظة التي كانت حاضراً منذ لحظة؟ وأني لحظة اللحظة؟ لا شيء يثبت، لا شيء يبقى، ويحومه لا قبل لنا بها، لا راد ولا مانع، لا نبطئها ولا نسرعها إلا بقدر المتوهم فينا من خلال أحوالنا النفسية، مع التقدم في العمر، مع إدراك ما لم أدركه، مع الاطلاع على فلسفات وعلوم حديثة, مع انشغالي بعلوم الفلك والكون، مع نفاد الرصيد من تلك الساعات والثواني، تعقد التساؤل اتخذ وجهات شتى، لكن الجوهر مازال . ما يحيرني، يقضني تلك اللحظة. من أين، وإلى أين، لماذا لا تثبت؟ لماذا تأتي وتولي بمجرد إدراكها؟ هل تمر بنا أم نحن نمر بها؟ هل توجد بمعزل عنا ؟ أم أنها جزء منا ونحن جزء منها، أهي لحظة كونية شاملة في عمومها، أو لكل مدار لحظته، أم لكل إنسان لحظته، زمن الانسان الفرد، هل يبدأ عند ولادته وينتهي عند تمامه؟ أم العكس ينتهي عند مجيئه إلى الدنيا، ويبدأ عند اندماجه في المطلق اللانهائي ؟ تساؤلات شتى، بلا حد، اعرف الآن استحالة الاجابة، لكن احيانا يكون السؤال نوعا من طرح المعرفة او الاشارة الى مواضعها وجوهرها، ألا تبدو الاسئلة التي طرحها ابو حيان التوحيدي اكثر احاطة من اجابات الفيلسوف مسكويه، التي وصلت الينا في كتاب ، (الهوامل والشوامل).انشغالي باللحظة التي تبيد باستمرار، دفعني الى الاطلاع على ما دون في لحظات منقضية، سواء كان نصا شفهيا صاغه عابر مجهول يوما، او كتاب على الجدران، تحاول ايجاد البديل الرمزي الموضوعي لسائر الموجودات، لكم امضيت ساعات طوال امام جدران هرم اوناس الداخلية، وهرم تي، الحروف المصرية القديمة لا تزال غائرة، اقدم نصوص خطها بشر، الكتابة هنا ليست مجرد نقش او ترميز، انما فعل له قوة الحياة، ماذا كان يعني بالنسبة لمن خطه يوما، وماذا يعني بالنسبة لمن فك ألغازه بعد ان توارت المعاني دهورا متتالية، وماذا يعني بالنسبة للسائحين العابرين بسرعة؟ ربما يكون النص الذي وصل الينا بقايا بناء او عمارة متكاملة فآخر ما يتبقى من الانسان البناء، ألم يصرخ الشاعر العربي يوما : "ليت الفتى حجر". لكن الحجر سواء كان مفردا او منظومة بناء يفنى ايضا، الكوكب الذي يدور بنا وندور به سيتلاشى يوما، الشمس المجرة، لا شيء يبقى، لكن الرغبة في البحث مصدرها محاولة الاتساق مع الكون، توقفت عند النصوص المكتوبة شعرا او نثرا. الحوليات التي تسجل وقائع ما جرى في مكان وحين وزمان معين والتي دونها المؤرخون، أولئك يصوغون الظاهر، والمبدعون يلتقطون الجوهر، ليس النص المكتوب فقط، انما المصور ايضا، اتواصل احيانا مع اقنعة الفيوم الجنائزية، ربما اكثر مما اتواصل مع احياء اعرفهم والتقي بهم يوما يفصلني عن الصيغة العيون اكثر من ألفي سنة، لكن حزنها الدفين المنحدر الينا من الفن المصري القديم، حيث النظرات تتجه الى نقطة غير محددة، الى ما لا يمكن ادراكه او تعيينه او رصده، انه نظرة الموجود الى اللاموجود، الى الخفي.تلك اللحظة المولية، ما يحفظ الى حين بعض مضمونها الابداع الانساني، انه الجهد الوحيد المقاوم للعدم، لما يطوينا باستمرار وقديما قال شاعر عربي: "لا اقدر على الايام فأحكيها".عندما بدأت الكتابة، بالتحديد عام تسعة وخمسين من القرنين الماضين شغلني امر، ان اضيف جديدا يختلف عما اقرأه. ثمة انماط من السرد مستقرة، متعارف عليها ، بل ان النقد النظري او التطبيقي المتاح يكرس اشكالا مسبقة، سواء في القصة القصيرة، او الرواية، وحتى هذه الفترة كانت الانظار تتجه غربا، فالقصة القصيرة اما تشيخوفية او موباسانية او همنجاوية، اما الرواية فمنذ ان كتب علي باشا مبارك رواية علم الدين، ومنذ ان كتب محمد حسين هيكل (زينب) ، اصبح اساس الرواية الحديثة مكرسا على نمط الرواية كما عرفت في القرن التاسع عشر من الآداب الانجليزية والفرنسية ومن خلالهما الروسية، لاسباب تاريخية وثقافية وقع انفصال بين طرائق السرد القديمة والكتابة الحديثة في مستهل القرن الماضي. لم يتعامل الادباء مع ألف ليلة وليلة بجدية، اعتبرت عملا خارجا عن الادب، ليس لانها كانت تقرأ في البيوت سرا باعتبارها عملا محرما، وانما لنظرة الادباء اليها، وحتى الآن ايقن ان كثيرين لا يتعاملون مع هذا النص، او غيره من نصوص كانت شفهية ثم دونت في القرن التاسع عشر مع ظهور المطبعة تعاملا جديا، الاسباب عديدة، منها فكرة محورها ان هذا أدب شعبي، أقل من حيث المستوى من الادب النثري الفصيح، المستقر، ومنها عدم وجود نسب لتلك النصوص، وللانساب في التراث العربي شأن عظيم، ولان ألف ليلة وليلة، وملحمة الظاهر بيبرس، وملحمة عنترة، والهلالية ، وسيف بن ذي يزن، وغير ذلك من نصوص صاغتها الرؤية الابداعية الجماعية، لا تستند الى اسم محدد، لكاتب معين مثل الجاحظ او التوحيدي على سبيل المثال، ورغم الدراسات العلمية حول ألف ليلة خلال نصف القرن الاخير الا ان هذه الرؤية التي استشعرها عند كثيرين لم تتغير كثيرا.وانقطعت الصلة بأشكال السرد القديمة والاساليب، واصبح الكثيرون ينظرون الى المقامة بسخرية، ورغم ايماني بلا جدوى منطق (لو) في التاريخ الا انني لا استطيع ان امنع نفسي من التساؤل، ماذا لو ان تطور القصة القصيرة على سبيل المثال انطلق من المقامة، آلام كان سيؤدي ؟ لا ادري طبعا ولكن ثمة عمل جميل اعتبره بمثابة جسر بين المقامة والشكل السردي الحديث المتأثر بالرواية الاوروبية، اعني (حديث عيسى بن هشام ) للمويلحي، ولكن لم يتم احد ما بدأه، لقد كرست اعمال هيكل، والحكيم، ونجيب محفوظ الانقطاع التام عن اشكال السرد القديمة، اتخذت من اشكال الرواية الغربية منطلقات عربية حديثة، واستقر الامر على ذلك، هذا ما وجدت الحال عليه عندما بدأت الكتابة وعمري اربعة عشر عاما، وبعد قراءة بدأت في الخامسة من عمري قراءة تلقائية، لعب فيها المكان الذي نشأت فيه. اعني القاهرة القديمة. ومركزها الروحي جامع الازهر، دورا هاما، اذ كنت أقرأ ما تعرضه المكتبات المحيطة بالازهر، الادب العربي القديم والادب الاجنبي المترجم في نفس الوقت خلال ترحالي عبر النصوص القديمة، تمهلت امام اساليب سرد غير مطروقة، مهجورة، لم يعد احد يستخدمها كمرجعية، واخص منها بالذكر.اساليب السرد في حوليات التاريخ، خاصة حوليات المؤرخين المصريين بدءا من العصر الفاطمي وصولا الى العصر العثماني، مرورا بالعصر المملوكي الذي اكتملت فيه البلاغة المصرية الخاصة.يمكن القول: ان مصر في هذا العصر استوعبت اللغة العربية التي جاءت مع العرب عام 640 ميلادية ومنحتها شخصيتها الخاصة، نجد هذا بوضوح في سرد المقريزي، او ابن تغري بردي، والسخاوي، وابن اياس الذي توقفت عنده طويلا، وابن الصباغ، والشعراني، يمكن القول: ان ثمة بلاغة مصرية خاصة اكتملت في العصر المملوكي، واكبها اكتمال الشخصية المصرية في العمارة والفنون المختلفة، بالنسبة للسرد، توقفت طويلا عند ايقاعه وشكله، فمن ناحية الايقاع عند ابن اياس مثلا، نجده اقرب الى لغة الشارع، العامية المصرية والمحملة بتأثيرات مصرية لغوية قديمة. اما الاطار فمستمد من العربية الفصحى، هذه البلاغة الخاصة لم تحظ بدراسة متعمقة بعد، وكثيرا ما سمعت عبارة (عصر الانحطاط اللغوي) والمقصود به هذه الاساليب السردية، او البلاغية المصرية، عامية الايقاع، فصحى الاطار، وباحساسي وجدت ان هذه الاساليب السردية تتيح لي قدرا من الحرية، يمكنني من التعبير ، افضل بكثير من اساليب السرد المستقرة في الانتاج الادبي المتاح وقتئذ، في الخمسينات والستينات، لقد اعدت اكتشاف نص هام تعلقت به، اقصد بدائع الزهور في وقائع الدهور، للمؤرخ المصري محمد احمد بن اياس الحنفي المصري. بدأت علاقتي به اوائل الستينات، ثم اعدت اكتشافه عقب هزيمة يونيو سبعة وستين، اذ عاش حقبة مماثلة، وهزيمة كان لها اثر بعيد المدى في تاريخنا، مثل هزيمة سبعة وستين، عندما انكسر الجيش المملوكي المصري في مرج دابق، شمال حلب، امام الجيش العثماني وتحولت مصر من دولة مستقلة يتبعها الشام والحجاز الى ولاية تابعة للامبراطورية العثمانية، من هذا النص الفريد ومن خلال نصوص اخرى مواتية، جاءت اول محاولة شعرت انني احقق فيها صوتي الخاص، اعني قصة (هداية أهل الورى لبعض ما جرى في المقشرة) لم تكن مماهاة أسلوب السرد العتيق مجرد اعادة صلة بأساليب مهجورة فقط، انما كانت طريقة لمراوغة الرقابة الرسمية المفروضة وقتئذ، لقد نشرت القصة في جريدة (المساء) لاول مرة في اغسطس عام سبعة وستين واجازها الرقيب باعتبارها مخطوطة عتيقة.@ @ @اذا كانت صلتي بطرائق السرد القديمة الخاصة بالحوليات تعد الخطوة الاولى في اكتشاف الامكانيات اللغوية التي يمكن ان تحقق لي قدرا اكبر من حرية التعبير، فإن اكتشافي خصائص السرد الناتج عن التجربة الصوفية يعد الخطوة التالية.في اساليب السرد العربية وجهان، او طريقان، ما يمكن اعتباره ظاهرا وباطنا، فالظاهر تمثله البلاغة الرسمية، المستقرة، ذات القواعد المحددة والأطر الصارمة، اما الباطن فهو اساليب السرد غير التقليدية التي لجأ اليها الصوفية ليعبروا عن تجاربهم الروحية التي لم تكن أطر البلاغة التقليدية تتسع لها. وقد لخص النقري الامر كله في عبارته البليغة، كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة لقد بذل جهدا هائلا للتعبير عن مغامرته الروحية، واوجد كل منهم اساليبه. يمكنني القول: ان المغامرة السردية في النصوص اكثر تنوعا وثراء، لكن هذه التجربة الروحية لم تدرس حتى الآن باعتبارها جزءا اساسيا من الادب العربي، ولن تكتمل دراسة الادب العربية الا بدراسة اساليب السرد باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الادب. ان اهتمامي بالمغامرة اللغوية، واثراء طرائق السرد الحديثة لا يتوقف عند حد معين، وقد انتبهت مؤخرا الى العناصر الكامنة في العامية المصرية والمنحدرة من المصرية القديمة، ولذلك احاول التعرف على النصوص القديمة الآن مباشرة من الخط الهيلوغريفي القديم، وليس من خلال اللغات الاجنبية التي ترجمت اليها هذه النصوص ونقلت الى العربية منها.@ @ @فيما بعد اكتشفت ان قلقي المستمر من اجل الوصول الى شكل يحقق خصوصية خاصة بما اكتبه ليس أمرا قاصرا علي فقط لقد كانت هناك جهود اخرى تتم في اماكن اخرى، هكذا تعرفت في نهاية السبعينات على تجربة أميل حبيبي عندما وصلت الينا روايته (الوقائع الغريبة في حكاية سعيد ابن النحس المتشائل) ، وكذلك (حدث ابو هريرة قال) لمحمود المسعدي التي نشرت لاول مرة عام اربعة وسبعين، وأتيح لي ان أقرأها في منتصف الثمانينات.ان محاولتي تحقيق الخصوصية، جاءت نتيجة رغبتي في التفرد، في تقديم ما لم اعرف مثله، من خلال استيعاب ما سبقني وتجاوزه، ومن اجل تحقيق مساحة اكبر من حرية التعبير من خلال اساليب سردية تتصل مباشرة بوجداني وميراثي.ما أود التأكيد عليه، هو انني اقدم الى مغامرة ابداعية من خلال ظروف خاصة لا تسعى الى تقديم نمط أو تأسيس نموذج يمكن للآخرين ان يحتذوا به، فهذا ضد ما أتصوره من ضرورة لتجاوز ما سبق بعد استيعابه، واستيعاب كافة ثمار التجارب الانسانية ايضا، استيعابها وليس تقليدها. فالتقليد منبوذ عندي، مضاد لجوهر الابداع، وقد اجتهدت قدر استطاعتي. وطبقا لظروفي، لعلي اكون قد حققت بعضا مما رغبت.*الشهادة التي قدمها الروائي جمال الغيطاني في المهرجان الثقافي الأول بدبي
جمال الغيطاني