منصور القطري

منصور القطري

يعيش الإنسان العربي اليوم واقعاً مريراُ مليئاً بالأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ذلك الواقع دفع الناس إلى صناعة وابتكار آليات للتخلص من قسوة الحياة، فكان شياع روح النكتة والفكاهة الاجتماعية وسيلة تلجأ لها جميع الشعوب المغلوبة على أمرها! لكن قبل ذلك كله يمكن اعتبار (روح الدعابة) في الإنسان دليلا على صفاء ولطافة الحس وحيوية الفكر ويعزز ذلك قول الإمام علي (من كانت به دعابة فقد برأ من الكبر) وفي الأمة تعتبر عنوانا للتحضر ورقة في الطبع وغزارة التراث .الفكاهة نزهة النفس وربيع القلوبعرف العرب الفكاهة كبقية الأمم الأخرى وتعمقت التجربة بعد فتح العراق وفارس والشام حيث تداخلت تجربتهم الإنسانية برصيد تلك الشعوب وما تختزنه حياتهم الاجتماعية والثقافية مما أفرز اهتمامات جديدة بألوان الفكاهة والترويح المختلفة فانتشرت مجالس القصص والحكايات والهزل والنوادر.وتطور الفكاهة في التراث العربي هو بالتأكيد امتداد لتجربة الإنسان الأول حيث كان "المزاح البدني" أسبق من "النكتة اللفظية" ( فالإنسان البدائي كان يصنع فخاخاً وأحابيل لأصحابه فيثير هياجاً من الضحك ـ غير النظامي ـ وربما تسلل وراء غفلة صاحبه البليد فيصفعه ويهرب مرحاً أو يلقي عليه الماء من مكان خفي ليبلل عريه أو غطاء عورته الجلدي أو يرمي عليه ثمرة من فوق شجرة يختبئ بين أغصانها ولا مانع من أن تكون الثمرة جوزة هند ! فيموت صاحبه ويموت هو من الضحك !).وقد ظهر في التراث العربي كثير من الشخصيات الفكاهية يعرفها أغلبنا مثل( أشعب ـ أبو دولامة ـ أوأبو العبر) أما شخصية جحا ومن خلال مطالعة بعض الأدبيات الفكاهية فيمكن أن نعتبره شخصية ما فوق قومية بسبب تنازع الفرس ـ العرب ـ الترك ـ الكرد على جذوره القومية إلا أنه بهذا القدر أو ذاك يعتبر جزءا من هذه القومية لأن كل الشعوب أضافت لهذا المشترك( الفكاهي). ويقسم أهل الاختصاص الأدب العربي الكتابات الفكاهية إلى نمطين: فريق من الكتاب عرض للفكاهة في ثنايا كتبه كما فعل الجاحظ في كتاب (البخلاء) وفريق آخر من الكتاب أفردوا الفكاهة بكتب خاصة منهم: أبو الطيب الو شاء في كتابه (الموشى أو الظرف والظرفاء) وكذلك أبو منصور الثعالبي في كتابه (لطائف اللطف ) ومن بين صور الفكاهة عند العرب أن أبا العبر العباسي سأله مرة ثعلب العالم النحوي المشهور: الظبي معرفة أو نكرة ؟ فأجابه: إن كان مشوياً على المائدة فمعرفة وإن كان في الصحراء فهو نكرة ! فقال له ثعلب: ما في الدنيا أعرف منك بالنحو ! .الثقافة المتجهمةيعتقد بعض الباحثين أن الدين الإسلامي حدّ من تطور النكتة وحجم روح الدعابة من خلال بعض الأحاديث ( كثرة الضحك تميت القلب ) ورسم حدودا للضحك ( ما كان ضحك رسول الله > إلا تبسماً ) ! وأن النكتة لم تتطور إلا بعد الفتوحات واختلاط الثقافة الإسلامية بالثقافات الأخرى !.القراءات المبتورة للتراث قد تتجاهل قول الرسول > (روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت) وقول الإمام علي:( أحموا هذه القلوب والتمسوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان ) وإذا مدحت العرب رجلاً قالوا هو ضحوك السن بسام الهشات عمش إلى الضيف، وإذا ذمته قالت: هو عبوس الوجه جهم المحيا كريه المنظر حامض الوجنة كأنما وجهه بالخل منضوح وكأنما أسقط خيشومه بالخردل ! .بل تنبه المربون العرب المسلمون إلى (مسألة تربوية هامة) تتصل بضرورة إبقاء الدرس نشيطاً فدعوا إلى إزالة السأم بالنوادر والحكايات كي تبقى النفوس مهيأة لتقبل وتلقي العلم وفي هذا جاء في الأثر أن النبي > كان يحدث أصحابه عن أمر الآخرة فإذا رآهم كسلوا أخذ بهم في أحاديث الدنيا وكأن (الفكاهة حبوب تصطاد بها القلوب ... وهي نثار الدر).المرح الشافيتذهب العديد من الدراسات الحديثة إلى أن (الضحك) يقوي جهاز المناعة بنسبة 40% ويفسر تلك النتيجة الباحث (نورمان كوز ينز) في كتابه (بيولوجيا الأمل ) قائلاً: أن الضحك ينشط إفراز مادة الاندروفين من المخ وهذه المادة تعمل على خفض شعور الإنسان بالألم سواء النفسي أو الجسمي، وقد سبق (نورمان) بالإشارة إلى هذه الظاهرة الكاتب (أحمد أمين ) في الأربعينيات من القرن الميلادي الماضي بما يشبه الوصفة العلاجية: لو أنصف الناس لاستغنوا عن ثلاثة أرباع ما في الصيدليات بالضحك فضحكة واحدة خير من ألف حبة (أسبرين) أو(بندول) أو ما شئت من الأسماء عجمية وعربية وذلك لأن الضحك علاج الطبيعة بينما الأسبرين وما إليه علاج الإنسان، والطبيعة أمهر علاجاً واصدق نظراً وأكثر حنكة من بني البشر، بل أن (الفكاهة) استخدمت ليس كعلاج (نفسي جسدي )بل كعلاج (سياسي اجتماعي ) أيضاً فقد قامت مجموعة من المسلمين الأمريكيين بقيادة شاب يطلق على نفسه اسم الداعية (موسى) بتنفيذ برنامج للتعريف بالثقافة الإسلامية والعربية بطريقة فكاهية حيث قدمت الفرقة عروضها الكوميدية في واشنطن بهدف ردم الهوة بين فئات المجتمع الأمريكي خصوصاً بعد أحداث (الحادي عشر من سبتمبر)بهدف تعديل وتصحيح تلك الأحكام المطلقة التي تواجه المسلمين أي (بالضحك وليس بالمواجهة الحادة). على مقدار عمق الكبت تكون الضحكةفي السنوات الأخيرة اهتم العديد من علماء النفس بالأبعاد السيكولوجية للفكاهة والضحك وكذلك فعل بعض نقاد الأدب وقد شهدت مدينة (بال ) السويسرية في عام 1997م أول مؤتمر عالمي مخصص ( للفكاهة والعلاج النفسي)و الشيء الجميل في الفكاهة والضحك أنه لا يمكن احتسابها (كظاهره) على حقل معرفي واحد أو تخصص بعينه وذلك لأنها تتقاطع مع حقول معرفية متنوعة كالفلسفة والسينما والمسرح والفن التشكيلي والنقد الأدبي .. الخ.لكن بشكل عام يمكننا القول: إن النكات والأساطير تعتبر مرايا الشعوب وهي أقصر الطرق لمعرفة حجم معاناة وتطلعات وهموم المجتمعات الإنسانية. والنكتة تحديدا تعتبر صحافة لا تخضع للرقابة السياسية والدينية والاجتماعية فهي تنتشر وتنتقل من بيت إلى بيت ومن مقهى إلى مقهى دون قيود. وقد نقل أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يرغب في سماع ما يقال عنه وعن نظام حكمه فكلف من يجمع له هذه النكات، أما الرئيس الطاغية صدام فقد أصدر في أواخر عهده قانوناً يعاقب بإعدام كل من يروي نكتة عن الرئيس وحزبه.في الوطن العربي وبعد الهزائم العربية السابقة والمتكررة برز ما يعرف بـ ( أدب النكسة ) لكن بعد السقوط المفاجئ لبغداد على يد قوات الاحتلال الأمريكي لجأت الشعوب العربية للنكتة السياسية باعتبار ( التهكم ـ نقصد ـ الكي آخر العلاج) حيث طال القسم الأكبر منها وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف!. هذا الازدهار للنكتة والسخرية يعتبر رد فعل طبيعي للشعب خصوصا عندما يجد نفسه محاصراً بالأكاذيب الإعلامية.