صحيفة اليوم

مدخل إلى عالم كافكا

كثيرون هم الكتاب الذين تتكون معرفتنا بهم من خلال ما نقرأه عنهم وليس ما نقرأه لهم. وعديدة هي الأعمال التي نبني تصوراتنا حولها من خلال ما قرأناه أو سمعناه عنها. مثل تلك المعرفة وتلك التصورات ناقصة بالضرورة وغير موثوقة على الأرجح وبعيدة عن المصداقية في معظم الأحيان. الأمثلة أكثر من أن تحصى. كم واحدا منا قرأ ، على سبيل المثال رواية يوليسيس لجيمس جويس أو رواية دون كيشوت لسرفانتس أو الكوميديا الإلهية لدانتي أو الإلياذة والأوديسة لهوميروس؟ القائمة بلا شك طويلة والأسماء والعناوين كثيرة ولسنا هنا بالطبع بصدد إحصائها.فرانز كافكا واحد من هؤلاء الذين تكونت معرفة معظمنا به من خلال ما قرأناه عنه من مقالات عابرة أو دراسات معمقة ربما في أحسن الأحوال. أو لأكون أقل تعميما هكذا كانت تجربتي الشخصية مع مؤلفاته فأنا لم أكن قد قرأت له سوى مجموعة من القصص القصيرة أطولها قصته الطويلة أو روايته القصيرة الذائعة الصيت ( المسخ) مترجمة إلى اللغة الإنجليزية. ثمة ما يشبه الإجماع والاتفاق الضمني على أن فرانز كافكا يحتل موقعا متميزا ويتمتع بمكانة خاصة في خارطة الأدب الروائي العالمي المكتوب في الربع الأول من القرن العشرين وهي فترة بالغة الغنى والخصوبة على صعيد الحركات الأدبية المختلفة والمتعددة وكذلك على صعيد الأسماء والأعمال الكبيرة التي كتبت ونشرت في ذلك الحين. ولفرط ما لكتاباته من طابع خاص وبصمة فريدة اشتق من اسمه مصطلح الكافكوية لتوصيف الكتابات التي تتمحور ثيماتها أو تنم أجواؤها عن تشابه أو تقاطع ما مع ثيماته وأجوائه. إبان حياته لم يحقق كافكا نجاحا يذكر في الأوساط الأدبية والنقدية ولعل ذلك أن يكون أحد الأسباب التي دفعته لأن يوصي صديقه وموضع ثقته ماكس برود بأن يحرق كل ما تركه وراءه من كتابات غير منشورة بما في ذلك رواياته الثلاث الشهيرة (القلعة) و(المحاكمة) و(أمريكا). غير أن النجاح التي حظيت به أعماله على الصعيدين العام والخاص بعد نشر أعماله بسنوات كان كبيرا إذ إن ماكس برود لم يقدم ، لحسن الحظ، على تنفيذ وصية صديقه بعد وفاته بداء السل بل عمل على ترتيبها و إعدادها للطبع والنشر فكانت المحصلة خمسة مجلدات من الأعمال الكاملة. شيئا فشيئا أخذ اسم كافكا يكبر ورقعة انتشاره تتسع فترجمت أعماله إلى اللغات الأوربية أولا ومن ثم إلى مختلف لغات العالم حتى لقد كان تأثيره على معاصريه ومن جاء بعدهم كبيرا جدا ولا يمكن إغفاله أو تهميشه بأي حال من الأحوال فها هو الفيلسوف الألماني المعروف ثيودور أدورنو يقول إن كل من تمر عليه عربات كافكا سيفقد حتما وإلى الأبد سلامه مع العالم. أما دبليو . إتش . أودن فيشبه علاقة كافكا مع عصره بعلاقة كل من دانتي وشيكسبير وغوته بعصورهم التي عاشوا فيها فيقول "لو طلب من أحدنا أن يذكر اسم الكاتب الذي ارتبط بعصرنا بنفس العلاقة التي ربطت دانتي وشكسبير وغوتة بعصورهم، فإن كافكا هو أول من نفكر فيه". كما قال الكاتب الفرنسي الكبير بول كلوديل: "بالإضافة إلى راسين الذي اعتبره اعظم كاتب، هناك كاتب آخر ينبغي عليَّ أن ارفع قبعتي امامه، هو فرانز كافكا" . بوسعنا أن نقول هنا دون أن نتهم بالمبالغة إن فرانز كافكا كان هو الممثل الأبرز لروح العصر الحديث بكل ما يتسم به من قلق وتشظ وصراع دائم وسعي حثيث لفرض الهيمنة والتسلط والقمع بوجهيه التوتاليتاري والبطريركي. لقد حقق نجاحا ملفتا في تصوير العدمية التي ألقت بظلالها الداكنة على مجتمع فقد صلته بإله يمنح للفرد نوعا من الطمأنينة الميتافيزيقية والاستقرار النفسي تماما كما نجح في فضح وكشف آثار العقلانية المفرطة للهيمنة البيروقراطية التي توقع الفرد في حبائلها فلا يستطيع منها فكاكا وذلك بطريقة هي أقرب إلى التلميح والإشارة منها إلى التصريح والمباشرة. إن في عمله نقدا غير مباشر بالطبع لحالة الاغتراب شبه المطلقة والإحساس المفرط بالعزلة التي يستشعرها الفرد في مجتمع انفرط فيه عقد العلاقات الاجتماعية والارتباطات السيكلوجية لتتضاءل إلى محض وسائل لغايات ما.إن بوسعنا القول إن كافكا هو الممثل الأبرز إضافة إلى ذلك فإن كافكا من خلال منجزه الكتابي يمنحنا رؤية ما حول معنى أن يكون المرء كاتبا في القرن العشرين. إنه يقدم من خلال يومياته على وجه الخصوص السؤال المرتبط بجدوى أن يكرس المرء حياته للفن بشكل عام وللكتابة بشكل خاص. فالتفرغ للكتابة واتخاذها حرفة يعتاش منها الفرد لم يكن شيئا متحققا كما هو الآن (لدى الغرب بالطبع) بل كان على كافكا على سبيل المثال أن يحافظ على عمله في إحدى شركات التأمين الحكومية خلال النهار ولم يكن يتمكن من الكتابة إلا خلال ساعات الليل أو في أواخر ساعات النهار. ومما دفع بكافكا للالتزام بتلك الوظيفة المثقلة بقيود البيروقراطية التي طالما انتقدها وعبر عن اشمئزازه منها هو أنها كانت تتيح له وقتا أطول لينصرف إلى الاهتمام بمشاغله الأدبية والكتابية إذ كانت الفترة التي يقضيها في العمل قصيرة نسبيا إذا ما قيست بسواها من الوظائف.إن في انصراف الكاتب الكلي للكتابة وتكريس ذاته لها نوعا من المخاطرة التي قد لا تكون محمودة العواقب خصوصا إذا ما كان الكاتب يميل إلى التحليق خارج سرب الكتابات المألوفة والمكرسة والمطوبة مجتمعيا ونقديا كما كانت الحال مع كتابات فرانز كافكا. إن احتمالات الفشل والإخفاق واردة جدا والأمر برمته لا يخلو من المجازفة غير مضمونة النتائج خصوصا حين يضع الكاتب تجاربه الأكثر وجودية وفردانية على المحك ويقوم بحرق كافة الجسور التي تربطه بالمتلقي عبر مجافاته لتقاليد الكتابة الراسخة والمكرسة في زمانه دون أن يحظى في النهاية بالاعتراف الذي يسعى كل كاتب لتحقيقه ويتوقع الحصول عليه. ولعل شعور كافكا بالفشل وعدم تمكنه من نيل الاعتراف الذي يستحقه خلال حياته هو ما دفعه لأن يطلب من صديقه الحميم ماكس برود بأن يطعم ما تركه من إرث إبداعي استنزف قواه الجسدية والنفسية للنار كما ألمحنا سابقا.إن أحد مصادر الغنى والخصوبة فيما تركه كافكا وراءه من آثار كتابية هو قابليتها للتأويلات المختلفة والمتناقضة في بعض الأحيان وتعدد المعنى واختلاف الرؤى ووجهات النظر حولها. إن كتابته بمعنى من المعاني تتحدى التأويل الواحد والمعنى الثابت المحدد. صديقه ماكس برود على سبيل المثال يؤكد على البعد الديني لديه ويقول: إن كافكا كاتب متدين في الأساس وإن كتابته ليست إلا تعبيرا عن اغتراب الإنسان وانقطاع صلته بالخالق. أما كامو وسارتر الممثلان الأكثر بروزا للتيار الوجودي فكانا يريان فيه كاتبا فلسفيا بالمعنى العبثي. النقاد الماركسيون بدورهم كانوا يرون فيه مصورا لحالة الاغتراب السائدة في المجتمعات الصناعية الحديثة. هناك أيضا من ذهب إلى اعتبار كافكا كاتبا صهيونيا بمعنى ما تأسيسا على هويته اليهودية فسعى إلى "حل رموز كافكا الصهيونية" وهذا عنوان مقالة نشرت في مجلة الأقلام العراقية سنة 1979 قامت الكاتبة بديعة أمين بالرد عليها وتفنيد ما جاء فيها وكان ردها ذاك نواة لإتمام دراستها الهامة (هل ينبغي إحراق كافكا) التي نشرت في 1983والتي نفت فيها نفيا قاطعا صحة ما أثير من دخول أدب كافكا ضمن دائرة الأدب الصهيوني المنغمس في الصراعات الأيدلوجية .ولعل التأويل الأقرب إلى روح كتابته هو التأويل الذي يؤكد على البعد الإنساني لديه في مقابل الأنظمة التوتاليتارية التي تتحكم بمصائر ومآلات الفرد في المجتمعات الحديثة. حتى أن الشاعر قاسم حداد انطلاقا مما يسميه قراءة الواقع للنص قد رأى في العلاقة الملتبسة بين ، بطل رواية القلعة وبين القلعة ذات السطوة الغامضة ما يشبه العلاقة القلقة التي تربط ما بين المثقف العربي والسلطة التي ينجذب إليها و يسعى إلى استرضائها وهي ذاتها من "أمعنت في التنكيل به وبأحلامه ومشاريع حياته" وذلك باعتبار أن كافكا لم يكن "يتحدث عن لحظة زمنية ومكانية ثابتة ، إنما كان يمارس ضربا من السبر المتصل بالإنسان في كثير من تحولاته". أحد المفاتيح المهمة التي ستساعدنا في فهم أعمال كافكا كما يقترح مالكولم برادبري هو العلاقة القلقة والملتبسة التي ربطت بينه وبين والده الذي كان تاجرا ناجحا متسلطا قويا أراد أن يشكل شخصية ابنه البالغ الهشاشة والمفرط الحساسية على صورته ومثاله مما أدى إلى نوع من الصراع و الخلاف الدائم بينهما حول كل أمور الحياة على وجه التقريب. يبدأ كافكا رسالته الشهيرة التي لم تصل أبدا إلى وجهتها ( رسالة إلى والده) بالعبارة التالية:" سألتني مؤخرا لماذا أخاف منك" ليقول بعد ذلك :" لقد فقدت ثقتي بذاتي حيث يختص بك الأمر ، وبدلا عنها نشأ لدي إحساس عميق بالذنب". إن تلك الرسالة ذات الطابع الأوتوبيوغرافي العاطفي هي بمثابة السجل الأوفى لسنوات حياته الأولى ولطبيعة شخصيته الهشة. إنها حكاية مجموعة من الثورات المتتابعة المتداخلة ضد العائلة وفكرة العائلة وضد عالم التجارة الذي أراد والده أن يجره إليه ، وضد التراث اليهودي المرتبط بفكرة الانعزال والغيتو.إن ثورة الابن على أبيه تلك لها مساس كبير ومباشر بالروح المهيمنة على كتابات كافكا بلا أدنى ريب. فقد انبثقت من تلك العلاقة الإشكالية مع والده ضروب أخرى من العلاقات المضطربة كعلاقة الإنسان بالخالق ، وعلاقة الإنسان بالقانون ، وعلاقة اليهودي بغير اليهودي. إن الفكرة الأكثر إلحاحا وهيمنة على كافكا وكتاباته بالتالي ، باعتبار أنها جزء لا يتجزأ منه ، عبر سني حياته القصيرة كلها هي أنه خاضع لحكم سلطة أبوية مطلقة تقلل من شأن كل ما يفعله ، وتسخر من كل ما ينجزه. يورد كافكا موقفا مؤثرا حدث إبان طفولته يصور فيه مدى القسوة التي كان والده يعامله بها. يستيقظ الطفل كافكا خلال إحدى الليالي وهو يحس بالعطش فيطلب الماء فما يكون من والده إلا أن يحمله من فراشه ويتركه وحيدا في الشرفة. يقول كافكا:"حتى بعد ذلك بسنوات عانيت من ذلك الوهم المرعب حيث يجيء ذلك الرجل الضخم ، والدي ، السلطة المطلقة بلا أدنى سبب على الإطلاق ليقتلعني من فراشي في عتمة الليل ليحملني إلى الشرفة. لقد كنت محض لا شيء بالنسبة له".لقد بدا كافكا كمن يسعى لأن يخيب ظن أبيه في كل ما كان يرسمه له من خطط ويبنيه عليه من آمال فلم يكن فردا صالحا من أفراد العائلة ولم يسع سعيا جادا لأن يكون أسرته الخاصة ولم يعمل بالتجارة كما تمنى والده ولم يكن يهوديا مؤمنا بالمعنى التقليدي للإيمان.حتى توجهه للكتابة وتشبثه بها كان بمثابة التحدي السافر ، ربما ، لإرادة والده الذي كان لا يتردد في التعبير عن احتقاره لها. لقد كانت الكتابة بالنسبة لكافكا ، كما يقول ، إجازة طويلة متعمدة من أبيه المتسلط القوي غير المتفهم لحاجاته ورغباته وأهوائه. الأثر الذي تركه كافكا على معاصريه من الكتاب ومن جاء بعدهم بأجيال كان بالتأكيد كبيرا جدا ويمكن تلمسه بسهولة ويسر. لقد كان الكاتب الأطول ظلا كما يصفه برادبري ملمحا إلى تأثيره العميق على عدد كبير من الكتاب المعروفين والمكرسين في الدوائر الأدبية والنقدية. ألبير كامو مثلا كان يكتب مثل رجل مدان مثل كافكا تماما وقد صرح في أكثر من موضع بإعجابه بكافكا ورأى أن هنالك صلة وثيقة وتقاربا حميما يربط ما بينهما. صمويل بيكيت بأبطاله المهمشين ذوي الأسماء المختصرة أو الغائبة وعزلته ككاتب يدين بالكثير كذلك لكافكا. بالإمكان تلمس آثار كافكا كذلك لدى الأمريكيين اللاتينيين خورخي لويس بورخس وجارسيا ماركيز بعوالمهما الغريبة وواقعيتهما السحرية وميلان كونديرا الذي ولد ونشأ في نفس المدينة التي ولد فيها كافكا، براغ. هنالك أيضا الروائي الأمريكي فيليب روث الذي كتب رواية قصيرة بعنوان الثدي سنة 1972 و فيها يتحول بطلها ديفيد كيبش إلى ثدي أنثوي. وفي ذلك كما لا يخفى تأثر برواية كافكا المسخ. وفي رواية أخرى لروث بعنوان (برفسور الرغبة) يعود كيبش مرة أخرى وهو هذه المرة أستاذ يهودي للأدب ليس على وفاق مع والده وكذلك مع إرثه اليهودي يدرس مادة حول كافكا ويجد صلة ما تربط ما بين الطابع الإيروتيكي الغريب لعالم كافكا وبين إنغماسه هو وهوسه بعالم الجنس الأمر الذي يدفعه إلى السفر إلى مسقط رأس كافكا وزيارة قبره. بول أوستر ، الروائي الأمريكي المعروف ليس بعيدا أيضا عن أجواء كافكا خصوصا في ( ثلاثية نيويورك) حيث البحث عن الهوية ومحاولة العثور على الذات والسعي للوصول إلى المعنى في زمن أصبح فيه المعنى متعذرا ومتفلتا لا يمكن القبض عليه. الفائز بجائزة البوكر عام 1989 عن روايته بقايا اليوم ، كازو إيشجورو ، البريطاني ذو الأصول اليابانية وأحد أهم الأصوات الروائية البريطانية المعاصرة هو أيضا واحد من أولئك الذين لم ينجوا من سحر كافكا. وأشير هنا بالتحديد إلى روايته الجميلة والضخمة The Unconsoled التي تهيمن عليها الأجواء الكابوسية الكافكوية بامتياز منقطع النظير. هنالك أيضا الكاتب الإيراني صادق هدايت صاحب ( البومة العمياء). إن قائمة الأسماء المدينة لكافكا والمتأثرة به طويلة بلا شك وهي كما رأينا ليست مقتصرة على ثقافة أو لغة محددة. فمن البين أن الأثر الذي تركه كافكا قد اتخذ طابعا كونيا شمل رقاعا متباعدة ثقافيا ولغويا وجغرافيا وفي هذا تفسير وتبرير لمقولة أن كافكا هو صاحب الظل الأطول بين كتاب القرن العشرين.@@@ربما كانت رواية كافكا المحاكمة أكثر رواياته الثلاث شهرة وأقربها تصويرا لروحه وأقواها إدانة لعصره الذي كان وفق العديد من الآراء الشاهد الإبداعي الأبرز عليه. كتب كافكا روايته ( المحاكمة) التي لم يتمها خلال عامي 1914 و1915 أي في الفترة التي اندلعت فيها الحرب العالمية الأولى حيث أخذت الثقافة الألمانية والإمبراطورية الهنغارية التي نشأ تحت ظلالها في التداعي البطيء من حوله. وقد رافق ذلك على الصعيد الشخصي فشل ذريع في علاقاته العاطفية وحياته الجنسية ، إضافة إلى ظهور العلامات الأولى لإصابته بداء السل الذي سيضع حدا لحياته بعد ذلك بعشر سنين. في عام 1920 يعطي كافكا مخطوطة الرواية التي لم يتمكن من إكمال بعض فصولها إلى صديقه الحميم والمنفذ لوصيته فيما بعد ماكس برود ليراجعها ويطلع عليها. كانت المخطوطة دون عنوان ولكن برود كان يعرف العنوان من خلال أحاديثه وتواصله المستمرين مع كافكا. لم يتدخل برود في وضع العناوين لكل فصل كما حافظ على تقسيم الفصول كما تركها كافكا ولكنه اجتهد في ترتيبها انطلاقا من رأيه الشخصي وكانت ذريعته في ذلك هي أن كافكا كان قد قرأ له من قبل معظم فصول الرواية. نشرت الرواية كما نعلم بعد وفاة كافكا بعام واحد أي في سنة 1925 وكانت مكونة من عشرة فصول تليها خاتمة لماكس برود شرح فيها ظروف نشر الرواية. ترجمت الرواية لأول مرة إلى اللغات الفرنسية والإيطالية والنرويجية عام 1933 وإلى اللغة البولونية عام 1936 ثم إلى الإنجليزية سنة 1937 وبعد ذلك كرت سبحة الترجمات إلى لغات أخرى عديدة. كان هناك ولا يزال جدل واسع ونقاش طويل حول عدد وترتيب فصول الرواية فهناك من النقاد والدارسين من يصرح باختلافه مع برود في الترتيب الذي توصل إليه لفصول الرواية. الترجمة العربية التي أنجزها ابراهيم وطفي للرواية عن اللغة الألمانية على سبيل المثال تتكون من تسعة عشر فصلا وليس عشرة فصول كما هي الترجمة الإنجليزية وهي مأخوذة عن إحدى النسخ العديدة المختلفة التي طبعت بها الرواية بعد صورتها الأولى التي خرجت بها على يد ماكس برود. وكان ماكس برود نفسه قد أضاف ملحقا خاصا في الطبعة الثانية عام 1935 ضمنه المواضع التي كان كافكا قد حذفها والفصول التي اعتبرها برود غير مكتملة. إن ما زاد في صعوبة الوصول إلى قول فصل حول الترتيب الصحيح للفصول وكذلك تقسيمها وعددها حسب بعض النقاد هو أن كافكا لم يكتب فصول الرواية بالطريقة التقليدية الخطية حيث تتابع الفصول واحدا تلو الآخر حسب تسلسل الأحداث وتطورها بل إنه كتب الفصلين الأول والأخير أولا ثم راح يكتب ما بينهما من فصول في أوقات متباعدة وكان يكتب دون تصاميم واضحة أو مسودات مسبقة. تبدأ أحداث الرواية في غرفة جوزيف ك. ، بطل الرواية الموظف المرموق في أحد المصارف ، الذي قد استيقظ للتو وبدلا من أن يتم إحضار طعام فطوره المعتاد كل صباح يفاجأ بدخول رجلين غريبين إلى غرفته يخبرانه بأنه رهن الاعتقال ويصطحبانه إلى غرفة مجاورة يتواجد فيها المحقق الذي يؤكد ما أخبراه به دون أن يطلعه على سبب اعتقاله لأنه بكل بساطة لا يعرف السبب ولا يهمه أن يعرف. بعد محاورة قصيرة يخبره المحقق بأن عليه أن يراجع المحكمة كل يوم أحد ، وقد تم اختيار ذلك اليوم تحديدا لكي يتمكن من مواصلة الذهاب إلى عمله فهو لا زال محض معتقل لم تتم إدانته بالجرم المنسوب إليه بعد. ولأن ذلك اليوم يصادف عيد ميلاده الثلاثين يعتقد ك. لوهلة أن الأمر برمته ليس سوى مزحة ثقيلة خطط لها أصدقاؤه وزملاؤه في البنك. غير أن ذلك الافتراض غير صحيح كما سنعرف لاحقا. في يوم الأحد التالي يذهب ك. إلى العنوان الذي أعطي له في مكالمة هاتفية ويجد صعوبة في الوصول إلى المحكمة وحين يصل متأخرا قرابة الساعة عن موعده المحدد في التاسعة صباحا يتم اصطحابه فورا إلى غرفة مليئة بالناس ويقف أمام قاضي التحقيق الذي يستجوبه دون أن يقابله. بالاحترام الذي يتوقعه منه لينتهي ذلك التحقيق الأول بتصريح قاضي التحقيق. بأنه قد ضيع بيده المزايا التي يهبها التحقيق للمتهم دون أن يكون مدركا لذلك. تتوالى فصول الرواية ونتعرف على العديد من الشخصيات التي يكون محور علاقتها بك هو قضية المحاكمة الحتمية والقانون الخفي والمحكمة التي لا يمكن الوصول إليها والتنبؤ بما تخبئه له ولغيره من المدانين الذين يصادفهم في أروقة المحكمة. تتكشف لنا من خلال السرد أحداث غريبة وإشارات وإلماحات ذات دلالات يمكننا تشوفها دون أن نستطيع الجزم بها. في فصل الجلاد على سبيل المثال يسمع ك أنينا قادما من إحدى الغرف التي يفترض أن تكون مخزنا مهملا في المصرف الذي يعمل فيه وحين يدفعه الفضول لفتح الباب يشاهد الحارسين اللذين قد قاما باعتقاله في مطلع الرواية بصحبة جلاد جهم الملامح يمسك بعصا غليظة ويقوم بضربهما تنفيذا لحكم قاضي التحقيق عقابا لهما على إساءة التصرف ومحاولة ابتزاز ك الذي كان قد صرح للقاضي بتذمره واستيائه من تصرفهما. يحاول ك أن يشفع لهما ويخلي سبيلهما لدى الجلاد الذي لا يستجيب له ويصر على إيقاع العقاب بهما. في اليوم التالي يفتح باب المخزن نفسه ليفاجأ بنفس المشهد يتكرر أمام عينيه للمرة الثانية. هنالك ما يشير أيضا إلى وجود المحكمة في كل مكان على وجه التقريب كما يلمح الرسام تيرتولي ، الذي يقوم برسم بورتريهات لقضاة المحكمة، حين يزوره ك ليعرف أكثر عن خبايا وأسرار المحكمة. "كل شيء ينتمي إلى المحكمة" يقول تيرتولي ل ك ، حتى الصبايا الصغيرات اللاتي صادفهن ك في طريقه إليه واللاتي لم يكففن عن التطفل عليهما لمعرفة ما يدور بينهما. قبل ذلك يلتقي بمحام عجوز مريض يلازم الفراش ولا يستطيع الحركة إلا بصعوبة ليساعده في قضيته ليفاجأ ك بأنه على علم مسبق بها. يلتقي لدى المحامي أيضا ب ليني الممرضة التي تعمل لدى المحامي ويحس بانجذاب نحوها وتبادره هي بالمغازلة والسبب وراء ذلك كما يقول المحامي لك فيما بعد هو أن الرجال المدانين يتمتعون بالجاذبية وهي "ظاهرة ملفتة وتكاد أن تكون قانونا طبيعيا". في الفصل الذي جاء تحت عنوان ( في الكاتدرائية) يزور ك كاتدرائية المدينة الضخمة بغرض مصاحبة أحد زبائن المصرف الإيطاليين بتكليف مباشر من مدير المصرف في جولة ليطلع على معالمها والأعمال الفنية الموجودة فيها. يتخلف الإيطالي عن موعده وبدلا من أن يقفل ك راجعا يدفعه الفضول إلى الدخول إلى الكاتدرائية وهناك يلتقي بقس ، تابع للمحكمة هو أيضا، يخبره أن قضيته تتجه للأسوأ ويروي له حكاية رمزية parable تشكل المفصل الأساسي في الرواية وربما نقطة التنوير الوحيدة فيها إن جاز لنا أن نطلق عليها هذا التوصيف. تدور الحكاية حول رجل من الريف ينتظر عند باب القانون طوال حياته على أمل أن يسمح له بالدخول إليه دونما جدوى رغم إلحاحه بالطلب على الحارس الذي يقف عند البوابة ومحاولته بشتى السبل أن يثنيه عن رأيه. يعلمنا هذا الحارس أنه ليس إلا واحدا من عدة حراس أقوى منه وأشد فتكا. تمضي الأيام والسنين والرجل متشبث بالأمل إلى أن يحس بدنو أجله وحينئذ يسأل الحارس عن سبب عدم قدوم أي شخص آخر سواه إلى القانون ليقول له الحارس أن هذا الباب قد خصص له وحده فقط وأنه سيتم إغلاقه الآن لأن منيته قد حانت. ولأهمية هذه القصة وامتلائها بالدلالات عمد كافكا إلى نشرها كقصة منفصلة بعنوان أمام القانون سنة 1916. إن هذه القصة تشكل الأساس الأسطوري للرواية كما يقول برادبري. إنها قصة تبين طبيعة القانون الذي يحكمنا والذي لا يمكن اختراقه أو الكشف عن سجفه ، كما أنها قصة المعنى الذي يتعذر الوصول إليه أو القبض عليه.في الفصل الأخير وفي الليلة التي تسبق يوم عيد ميلاده الحادي والثلاثين يزوره رجلان غريبان ويكون هو مرتديا ملابسه ومستعدا للخروج وكأنه كان يتوقع قدومهما. يقوم الرجلان اللذان يبدوان كممثلين من الدرجة العاشرة ، كما يصفهما ك بأخذه إلى مكان بعيد على أطراف المدينة ويخلعان عنه سترته وصديريته وقميصه ويخرج أحدهما من سترته سكينا حادة ويعطيها لزميله الذي يعيدها إليه وكانا يقومان بذلك على مقربة من ك الذي فهم أن عليه أن يقوم هو بطعن نفسه بها لكنه لم يفعل ذلك وفي نهاية الأمر وبعد أن يقوم أحدهما بالإطباق على حنجرة ك بيديه الاثنتين يدفع الآخر بالسكين في قلبه ويديرها مرتين لينطق ك بعد ذلك بعبارته الأخيرة "مثل كلب!". ليس ثمة شك في أن المحاكمة نص غني ذو أفق دلالي مفتوح وهو من ذلك النوع من النصوص التي تترك الباب مواربا لعبور العديد من التأويلات والتفسيرات والمقاربات التي تحتمل الصواب دون أن يزعم أصحابها بإمكانية الجزم بصحتها وخطأ التأويلات الأخرى. إنه نص يحمل وجوهها عديدة يمكن أن ينظر إليه من خلالها على اختلافها وتعارضها دون أن يلغي وجه منها بعينه بقية الوجوه. إن هذا الأفق المفتوح للنص قد أغرى الكثيرين بالتحليق في أجوائه ومحاولة اكتناهه فكان أن تعددت التأويل واختلفت وجهات النظر وتضاربت الآراء ولا تزال كذلك إلى يومنا هذا مما يدل على مدى خصوبة هذا النص وثرائه الذي لم يتحقق إلا في القليل من الأعمال الإبداعية الخالدة.هناك من قرأ، على سبيل المثال، رسالة دينية مبطنة في ثنايا النص جاعلا منه أمثولة دينية وعرضا لبحث الإنسان عن الله. هذا هو التفسير الذي قال به صديق كافكا الحميم ماكس برود وكثيرون جاءوا بعده أحبوا أن يحصروا كافكا في هويته اليهودية الضيقة وهو الأمر الذي جوبه بمعارضة شديدة من قبل كثير من النقاد والدارسين الذين رأوا في تلك الفرضية اختلاقا مكشوفا لا يوجد له سند لا في حياة كافكا ولا في آثاره. من جانب آخر هناك من قال بوجود أبعاد سيكلوجية للنص ورأى إمكانية إخضاعه للتحليل النفسي فجوزف ك ، حسب هلموت كايزر في مقالة نشرها عام 1931 تحت عنوان "جحيم فرانز كافكا"، إنما يعاني من اضطراب غريزة وكبح جنسي وأنه تعذب بسبب احتقان الشهوة الجنسية التي لم تعط إمكانية لإشباعها.وبالطبع جاء من فند التفسير السيكلوجي أيضا كالفيلسوف فالتر بنيامين الذي فسر النص وفق مبدأ فلسفي تاريخي يقول بأن الوجود قد تشوه وأصبح عالم مستنقعات لا يعد بالتقدم ولا يلوح بالنماء. هنالك أيضا من وجد في الرواية نقدا موجها للبيروقراطية التي أصبحت هي النمط السائد الذي يحكم ويشكل العلاقات المجتمعية والفردية على حد سواء ، وبعض ذلك يقرأ في سلوك العديد من الشخصيات التابعة وظيفيا للمحكمة فهم أشبه بالآلات التي تقوم بما يطلب منها من عمل دونما فهم أو تساؤل أو اقتناع. ولعل ما أعطى للرواية بعدا رؤيويا وأضفى عليها طابعا نبوئيا هو أنها استشرفت إلى حد بعيد الصورة التي سيصير إليها إنسان العصر الحديث تحت وطأة النظم التوتاليتارية والفاشية التي قدر أن تكون لها السطوة والهيمنة على أجزاء كبيرة من أوربا بما في ذلك مسقط رأسه براغ التي اجتاحها النازيون مع بداية الحرب العالمية الثانية ثم خضعت للهيمنة الروسية يعد ذلك .بعض من كتب عن الرواية ربط بينها وبين حياة كافكا الشخصية وعلى وجه التحديد علاقته مع فيليس باور ، خطيبته التي ارتبط بها مرتين دون أن يتم الزواج بينهما وهو التفسير الذي قال به الياس كانيتي في كتاب صدر له عام 1969 تحت عنوان ( المحاكمة الأخرى / رسائل كافكا إلى فيليس) حيث يرى أن الاعتقال هو ترميز لخطوبته إلى فيليس والاعدام هو ترميز أيضا لفضح علاقته مع صديقتها غريته بلوخ التي كان يراسلها باستمرار كما كان يفعل مع فيليس تماما وكان يعبر في رسائله إليها عن انجذابه الجنسي نحوها. لقد تم فضح تلك العلاقة بشكل علني مذل لكافكا في اجتماع عائلي بعد أن أطلعت غريته بلوخ صديقتها فيليس على إحدى رسائل كافكا التي كتبها إليها وتم فسخ الخطوبة ما بينهما. ومما يدعم هذا التأويل أن كافكا في يومياته قد شبه الاجتماع الذي نتج عنه فسخ خطوبته بالمحاكمة. ومما يدعم هذا التفسير ويؤيده أن ك ، اسم بطل الرواية هو الحرف الأول لاسم كافكا كما هو واضح. كما أن الفترة التي كتب فيها كافكا الرواية ، عام 1914، هي الفترة نفسها التي شهدت التأزم في علاقته مع خطيبته. حتى إذا افترضنا صواب مثل هذه القراءة وموثوقيتها فإن ذلك لا ينفي أن الرواية قد تجاوزت الشأن الخاص المرتبط بحياة كافكا الشخصية وتفاصيلها لتكون ذات معنى شمولي وبعد يونيفرسالي من خلال خلقها لعالم استعاري تخييلي يتداخل فيه الواقع مع الحلم والحقيقة مع الوهم والإيمان مع الشك.مهما اختلفت التأويلات وتضاربت الآراء فإن رواية المحاكمة ، كشأن رواياته الأخرى ، تؤكد رؤية كافكا السوداوية للإنسان وموقعه في هذا العالم فهو عاجز كليا عن أن يكون سيد قدره ومصيره ، كما أنه متورط تورطا لا سبيل إلى الفكاك منه في شبكة علاقات بيروقراطية مصمتة تعزز تبعيته وعبوديته لسلطات استبدادية مجهولة أو معلومة على حد سواء. وأيا كان المنظور الذي ينظر من خلاله إلى عمل كافكا هذا أو سواه من أعمال أثارت ولا تزال الكثير من الإشكاليات والتساؤلات والاستفهامات ، فمن المرجح أن تبقى أعماله مصدرا وسببا للاختلاف والاتفاق معا. الاختلاف حول حمولاتها الدلالية الغنية ومعانيها المتعددة والاتفاق على مدى عبقرية هذا الروائي الفذ الذي لم يجد خلاصه إلا في الكتابة التي اتخذ منها وطنا وسكنا يؤويه من حالات التصدع والاغتراب والنفي والمرض التي نكلت بروحه ولم ترأف بقلبه الهش وجسده الضئيل.