تهشم الصورة وعودتنا إلى الأرض
لو لم يقم سمو ولي العهد بزيارته التفقدية للاحياء القديمة الفقيرة في مدينة الرياض, لما انفتحت شهية اعلامنا, الذي يطرق ابواب القضايا والهموم الاجتماعية متأخرا جدا, للتعاطي مع مشكلة الفقر عبر التحقيقات والاستطلاعات والندوات التي عقدت بسرعة قياسية.. واستعد من شارك بها بسرعة واعدت الاسئلة التي طرحت خلالها على المنتدين بسرعة قياسية ايضا, لان ما كان هاما ومطلوبا ليس نوع وقيمة الاجوبة, بل الاجابة نفسها ولتكن ما تكون, المهم ان يملأ بياض الورق بسواد الكلمات وبصور المشاركين مبتسمين ولامعين وهم يتبارزون بالآراء والمقترحات عن الفقر. والسؤال: أين كانت الصحافة عن الفقر؟ أين كان اعلامنا؟ أين كنا؟تشبه هذه الفورة الاعلامية الحالية عن الفقر الفورة التي جاءت في اعقاب حريق مدرسة البنات المتوسطة في مكة المكرمة وفتح ملف المدارس المستأجرة وقبلها فورة السعودة ثم عاد الهدوء ليرخي علينا بسدوله في انتظار هزة او رجة عنيفة لكي نفيق من غفلتنا لتتفتح اعيننا على امر مؤلم وكارثي آخر استمرأنا تغييبه ونسيانه مثلما فعلنا مع غيره من القضايا لاننا لا نريد الخروج من حلم الصورة التي رسمناها لانفسنا, صورة مجتمع الطفرة والوفرة, المجتمع الذي لا يشابهه ولا يضاهيه مجتمع آخر في ممارسة خداع الذات, المجتمع ذو الخصوصية الغامضة, والصورة التي يبدو فيها ليس كمجتمع من البشر بل ملائكة تمشي على الارض, فلا جريمة ولا بطالة, ولا فقر, واذا ما حدث ما يسبب خدشا في صفاء الصورة وجمالها, قلنا الحمد لله, حالنا احسن من غيرنا, كارهين ان نعترف بأنها في نفس الوقت اسوأ من حال غيرنا, الآخر الذي يعيش في ظروف افضل من الظروف التي نعيش فيها. نسقط هذا الآخر عمدا من ذاكراتنا لان استحضاره ليس في صالح الصورة التي شكلناها ورسمناها لانفسنا ولواقعنا فوقعنا, في عشقها وانغمرنا في عشقها الى الرقبة.لكن هذا العشق لن يدوم, فالصورة الوردية الجميلة آخذة في الانخداش والتشظي لانها صورة زائفة ومزيفة وغير حقيقية عن مجتمع غير حقيقي, فنحن بشر ولسنا استثنائيين كما كنا نحب ان نتوهم, ولسنا مجتمعا من الملائكة. لقد مارسنا خداع الذات طويلا حينما كنا نفكر ان الطفرة سوف تدق بيدها كل باب وسوف تهب كل مواطن بيتا ورصيدا ضخما في البنك واننا في منأى ومنجاة من البطالة وبقية المؤرقات الاخرى. نعترف الآن بالفقر وبالبطالة ومشاكل وقضايا اخرى.. والجميل في هذه الاعترافات تهشيمها تلك الصورة التي كانت تنزع عن مجتمعنا انسانيته وتوهمنا بملائكيته وكماله.لكن الغريب في الامر انه لا يزال بيننا من يحاول تغييب الحقائق المؤسفة بهدف اطالة حياة تلك الصورة الجميلة الزائفة من اجل تحقيق مآرب شخصية وهؤلاء هم جزء كبير من المشكلة وهم كثير. انهم لا يكتفون بتغييب الحقائق على الارض بتقاريرهم وكتاباتهم المزيفة المدفوعة بالرغبات والطموحات الذاتية, انما في التشكيك في نوايا من يقولون الحقيقة.وقد كتب احدهم في هذه الجريدة بالذات مشككا في صدقية ما يقال ويكتب عن ان البطالة آخذة في التزايد والاستشراء.والادهى والامر تشكيكه المضمر في وطنية وصدق نوايا من يتطرقون في كتاباتهم الى قضية البطالة. فالوطنية في نظره كممثل لتلك الشريحة تتمثل في التزييف والتحريف وعدم النطق بالحقيقة.والمدهش ان اولئك هم من يتفوق على الآخرين حديثا وتنظيرا واقتراحا للحلول لتلك القضايا والمشاكل عندما تنكشف الاغطية والاحجبة عنها ويصبح تغييبها امرا مستحيلا.