عمان - عدنان برية

القاص خليل السواحري.. قمر القدس الذي رحل حزينا

ودّع أدباء الأردن وكتابه، الخميس الماضي، القاص والأديب الفلسطيني الأردني العربي خليل السواحري، ليكون الفصل الأخير في سيرة أحد آباء القصة القصيرة الأردنية، بعد رحلة أدبية حافلة على مدى نحو خمسة وأربعين عاماً، أسهم خلالها في تقديم جيل كتاب من القصة القصيرة عبر ملاحظاته النقدية، إلى جانب جهده البحثي والصحافي وعمله كناشر. ولد خليل السواحري في قرية (السواحرة) القريبة من القدس عام 1940، و ترعرع وسط أجواء من الفقر والمجاعة مثل الكثيرين من أبناء جيله، ثمّ أنهى دراسته في كلية الرشيدية عام 1958، حيث تأثر بالأجواء السياسية التي عمّت البلاد حينها، وفي تلك المرحلة بدأ يتلمس خطاه في مسالك الأدب الوعرة، فيكتب الشعر المقفى تارة، وتارة يكتب النثر والقصة، وشيئا فشيئا بدأ دوره في مسرح الحياة الأدبية في الأردن وفلسطين، ثمّ حصل على ليسانس الدراسات الفلسفية والاجتماعية من جامعة دمشق عام 1965.عاش تحت نير الاحتلال الإسرائيلي الذي استولى على باقي الأراضي الفلسطينية في حرب يونيو، فقاومه مثل كل الفلسطينيين، وعلى إثر حراكه ونشاطه في مقاومة الاحتلال، أبعد السواحري إلى الأردن عام 1969، وحينها عمل في صحيفة الدستور الأردنية، حيث أصبح مشرفا على الزاوية الأدبية حتى عام 1985، وكان له عامود يومي تحت عنوان (أضواء) على الصفحة الأخيرة، كما كتب في زاوية (7 أيام) في صحيفة الرأي الأردنية بين عامي 1990 - 1993، ثم انقطع بسبب عودته إلى الضفة الغربية حيث عمل هناك مديرا عاما للمكتبة الوطنية الفلسطينية، وخلال السنوات 1996 - 1998 عمل محررا للشؤون الأدبية في جريدة الأيام الفلسطينية، التي تصدر في رام الله، حيث عاد يكتب زاوية أسبوعية على الصفحة الأخيرة من الجريدة تحت عنوان «دفاتر الأيام».وفي أثناء عمله مد السواحري يد العون لمجموعة غير قليلة من الكتاب، الذين تفتح عطاؤهم في السبعينات والثمانينات، كما ويعتبر السواحري واحدا من أهم الأعمدة التي قامت عليها رابطة الكتاب الأردنيين، نظرا لدوره البارز قبل التأسيس وبعده في نشاطها وحراكها.يلاحظ في اهتمامات السواحري التنوع سواء في مجال النقد اوالدراسات، فهو يكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، كما يكتب أحيانا عن الفن التشكيلي ويعلق عليه، وهذا التنوع يشير إلى الطبيعة الموسوعية للثقافة النقدية، حيث كان اهتمامه بارزا في مجال الشعر في مرحلة «الأفق الجديد»، وفي عقدي السبعينات والثمانينات يبتعد السواحري عن نقد الشعر لصالح نقد السرد في مجالي القصة والرواية، فيكتب دراسات عامة كمدخل نقدي للقصة القصيرة في الأردن، راصدا مراحل تطور القصة، ومبرزا اتجاهات الكتاب منذ البدايات وحتى قرابة السبعينات، كما له كتب في مجال الدراسات «زمن الاحتلال»، وهو عبارة عن قراءات في أدب الأرض المحتلة، حيث صدر ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب عام 1979، و»حرب الثمانين يوما في الشعر الإسرائيلي»، وقد صدر عن دار الكرمل عام 1985. واعتمادا على دراسة للدكتور محمد عبيد الله بعنوان «خليل السواحري: قراءة في الموقف الأدبي»، يمكن الإشارة إلى دراسة أخرى مجهولة للسواحري تحمل عنوان «علوم الفلسفة بين الغزالي وابن خلدون»، وهي دراسة قصيرة قدمت لنيل درجة الدبلوم العالي في الفلسفة من الجامعة اليسوعية في بيروت، وله كتاب مشترك مع سمير سمعان بعنوان «التوجهات العنصرية في مناهج التعليم الإسرائيلية»، وقد صدر عن اتحاد الكتاب العرب عام 2004، وعن المؤسسة العربية للدراسات والنشر قدم د. ضياء خضير دراسة نقدية في الأعمال القصصية للسواحري بعنوان «قمر القدس الحزين» 2003، وكان الناقد العراقي جاسم عاصي قد تناول أعماله في كتاب «جوّاب الآفاق - رحلة النص القصصي عند خليل السواحري» 2005.في مجموعة (زائر المساء) يتابع السواحري مشواره محتفيا بظاهرة العمل المقاوم من جهة، مع إطلالة على تحولات المجتمع تحت الاحتلال، مع التمسك بمنهج واقعي في التناول والتحليل، ملامسا أبعادا إنسانية رحبة دون أن يفارق عامله الأثير في الانحياز للشرائح الكادحة، أما المجموعة الثالثة (تحولات سلمان التايه ومكابداته) فإنها تواكب مرحلة جديدة من التفكير والحيرة، التي تجعل سلمان تائها فيما كان أبطال المجموعتين السابقتين على معرفة بما يريدونه وما ينكرونه، تماما حيث سلمان التايه يحمل ملامح سيكولوجية ثابتة، فهو يمثل النموذج الإنساني المقموع الخاضع للبؤس واليأس والإذلال.وحول أبعاد الموقف النقدي لدى السواحري، نقف عند مجموعة من المحاور، حيث أنه يدخل إلى الأعمال التي درسها من مدخل المضمون أو القضايا التي عالجتها، وأكثر ما لفت انتباهه واهتمامه إلى أعمال بعينها طبيعة القضايا الملتزمة التي عالجتها، سواء أكان التزاما بقضية فلسطين، أو بالواقع الاجتماعي أو السياسي، أو الانحياز إلى قيم العدالة والحق، أما الأعمال التي تخرج عن الالتزام، وفق معناه عنده، فمصيرها الإهمال أو النقد القاسي، لخروجها عن منطق عصرها، ونقف أيضا عند التلازم بين الشكل والمضمون، فمع عنايته بالمضمون، كمنطلق للاهتمام والنقد، فإنه يتأمل الكيفية التي تعين بها ذلك المضمون من ناحية التشكيل الفني والصورة التعبيرية له، وهو الذي يرى أن (وضوح المضمون، في ذهن الكاتب، يؤدي بالضرورة إلى نضوج الشكل ووضوحه).وحول واقعية السواحري نلحظ الاهتمام والحماس الذي لم يقتصر على الإنتاج القصصي للكاتب، وإنما سانده وعي نقدي برز في قراءاته النقدية ومراجعته للنصوص الإبداعية شعرا وقصة، ويمكننا القول ان معيار الانتماء إلى الواقعية بمختلف صورها وخياراتها، وربما بوجه خاص الواقعية الجديدة المتأثرة بالواقعية الاشتراكية، هو معيار حاسم لدى السواحري في الجزء الأكبر من نقده.أما بالنسبة إلى موقفه من التجريب، ففي دراسة له عن الإنتاج القصصي عند فخري قعوار، يقول السواحري «التجريب ليس عيبا، ولا هو جريمة أدبية يعاقب عليها القانون، إنه دلالة حياة وبحث مستمر عن الشكل الجديد، و محاولة لإغناء الشكل القصصي بتنويعات لا يسبرها الشكل التقليدي»، لكن عمليا السواحري لم يكن متحمسا للتجريب، بل كان يحذر منه، خصوصا إذا وجد أن الواقع لم يتغير، ولم يفتح سبيلا جديدا يسوّغ التحولات في الشكل الفني، حيث يقول «عرفت أخيرا أن ليس ثمة مجال للتجريب أو التغريب، فالواقع أكثر غرابة من الخيال، وفانتازيا ما يحدث الآن يفوق ما يمكن أن يحدث على صفحات الورق في أية قصة أو رواية».وبالنسبة لأدباء الأردن فإنهم لا يخفون تأثرهم الشديد برحيل السواحري، فأمين عام وزارة الثقافة الأردنية الشاعر جريس سماوي اعتبر رحيله خسارة للأدب الأردني، مبينا أن الفقيد أمضى حياته مشتغلا بالصحافة الثقافية والإنتاج الأدبي، وقد تبنى أصواتا كثيرة عندما كان مشرفا على عدد من المطبوعات المجلات والملاحق الثقافية، لافتا إلى إضافات السواحري على القصة القصيرة، وما قدمه من إبداعات مبتكرة وجديدة.أما الكاتب فخري قعوار، الذي عرف السواحري مذ كان طالبا في المدرسة، فاعتبر رحيله «مأساة عالقة في عقولنا، وباقية في وجداننا، ودائمة في قلوبنا ونحن على قيد الحياة، ونعتبر غيابه عن عيوننا، خسارة فادحة ومتغلغلة في بقية أعمارنا، ولا تزول أو تنتهي إلا بعد رحيلنا».وعد جمال ناجي (السواحري جزء، لا يتجزأ، من التاريخ والأدب في فلسطين والأردن)، مشيرا إلى إسهامات أسست للكثير من الظواهر الثقافية التي نشهدها الآن، نافيا أن يكون فقيدا للأدب الأردني، (هو فقيد الأدب العربي والثقافة العربية)، متمنيا ألا ينتهي حضور هذه القامة الكبيرة بوفاة صاحبها. ويجد د. إبراهيم خليل أن السواحري، أو كما يحب أن يلقب بابي عروة، كان ينطلق من رؤية واحدة، هي التزامه بالمسألة الوطنية الفلسطينية وهموم الإنسان العربي، في واقعه الاجتماعي ومشكلاته اليومية، التي جعلت منه أكثر الناس معاناة في هذا الزمان، ومن يقرأ نتاج السواحري مجتمعا يكتشف انه فيما كتب وأبدع «ينطلق من إحساس واضح، وفكر متجانس ومتماسك». وأكد القاص د. احمد النعيمي أن السواحري قاص مجدد، وقال: هو أحد القلائل من بين الكتاب العرب الذين نقلوا القصة من طورها التقليدي إلى طورها الحداثي، كما وانه حرص في أعماله الأخيرة على التجديد الإبداعي، وكذلك إشاراته العميقة لفكرة الموت بوصفها الملاذ البشري الأخير.