صحيفة اليوم

ولم يعدن من جديد

نمل العنوسة يدب في أخشابهن بلا هوادة، وهن مازلن ينفضنه بالمساحيق الجافة عن وجوههن العابسة، ومن فوق أياديهن المسحوبة عروق شبابها منذ أمد بعيد. لم يثنهن خجل عن مشاركة نساء القرية في الأفراح والأتراح، ونلن من الإعجاب بأنفسهن الشيء الكثير، عندما تقدمن للفصل الأول لمحو أميتهن وقبلن قوبلاً تعجبت منه أمهن الضعيفة. أصبحن منتظمات لإعداد أنفسهن معلمات قريباً.. وسيبعث الفرح من طمع الرجال في مرتباتهن، فور التخرج الذي يحسبن أيامه بالثانية مع أمهن التي لا تعرف عدد السنين. أمهن لا تعرف شيئاً غير أعمارهن التي تخاف أن تعدو أيامها، حتى يلحقنها عمراً، ويتقاسمن معها صناعة ( مصال) الخسف شأن الهرمات اللاتي يبحثن عما يتركنه خلفهن لذكرى حياة ماضية لا تفجع أحداً ولا تبكي أحداً. عدن اليوم بأطمارهن المعهودة وليس من جـــديد لديهن ســـوى ( مريم) قد نسيت مشطها الفضي في المنزل صباحاً، وهي متبـــــرمة الوجه، والأخرى ( هدية) غفلت عن وضع دهان بشرتها المتجعدة، عندما كان والدهن يحثهن للاستعجال حين تأخرن عن موعد دراستهن صباحاً، و(عائشة) من ليلة البارحة وهي مشغولة البال بتذكر المكان الذي وضعت فيه شرائط شعرها الأجعد، وقد سبب لها ذلك حرجاً كبيراً هذا اليوم عندما كن جميع الزميلات يكشفن عن شعورهن لإبداء الزينة في حصة التطبيق العـــملي لمادة.. أما ( صالحة) الأشد سمرة فقلقها لم ينته من يوم أمس على اثر الرتق الذي لحق بتنورتها الشاحبة.. والدها عاجز عن شراء تنورة أخرى والمكافأة التي يسميها أبوهن المكافحة، ما زالت تعمل في تدوير الأرباح! ليس من جديد لديهن، أما والدهن فلديه الكثير والكثير.. أخبرهن بأن وباء ما ليس معروفاً بعد، يزحف من الجنوب فلا يبقي ولا يذر من الحيوانات وبني البشر! أمهن لديها ما يلي: وجدت شرائط عائشة المفقودة، وتحتفظ بدهان هدية الخاص، وكذلك ممسكة بمشط مريم، ولم تنس أبداً أن تخبر صالحة بأن بمقدورها رقاعة الرتق الصغير الذي لحق ببزتها الجميلة- كما قالت- وهي إذ تعمد إلى عرض خدماتها تلك؛ إنما لتؤكد جديتها في العمل وأنها ذات نفع حتى في غيابهن، بالرغم من عجزها تماماً عن تحريك أي شيء من موضعه. أضاف الأب إنه رتب للهجرة شمالاً، للإقامة الدائمة عند أخيهم الذي يعمل هناك! قال الناس أنهم هربوا من المرض المخيف وإلا لما تركت النسوة أشياءهن الخاصة كأدوات التجميل مثلاً، وبعض مستلزمات الكلية التي سيلتحقن بها هناك- حسب زعمهن أمام زميلاتهن. قبل السفر تحدثت البنات الأربع- سراً- لأنفسهن فقط، ومجمل ما قلن أن نمل العنوسة يدب بهن، وهن في مسقط رؤوسهن وبين ظهراني أهالي قريتهن التي يعرفن، فما عساه أن يصنع بهن ذلك النمل في ديار غير ديارهن؟ في لحظة الهروب لا يأخذ الشخص سوى ما يسهل حمله ولا يكون الشيء الفاضل خلفه إلا من قبيل سقط المتاع، أو أنه عديم الفائدة في معظم الأحيان، كذلك مشط مريم ودهان هدية وشرائط عائشة وتنورة صالحة؛ فهي أشياء ذات قيمة عالية في القرية أما هناك فلا فائدة منها.. لذا تركنها من خلفهن، سقطاً من متاع حقير!