محمد الحرز

محمد الحرز

المثقف صناعة وطن بامتياز.وكل قناعة خلاف ذلك لا يمكن أن تكون ذا قيمة يركن إليها خصوصا إذا كان وثيق الصلة ببناء مفهوم محوري في حياة المجتمعات كالوطن . الرابط بين الاثنين لا تستدعيه فقط الضرورة في بناء ثقافة فاعلة تصب في مجرى ترسيخ التعايش ضمن إطار دولة حديثة. لكن التفكير خارج إطار هذا الترابط هو يشبه في بعض أوجهه البحث عن سفينة في رمال الصحراء القاحلة . ولأن مفاهيم مثل الوطن والمثقف لم تحظ في وعينا الثقافي المحلي بالدراسة والتأمل والفهم , فإن مصدر الالتباس في فهم حقيقة ما يجري على مستوى الخطاب الاجتماعي والديني والثقافي والسياسي هو في الاعتبار التالي : لا معنى للوطن في أذهان الناس من دون ربطه بالهوية الدينية من جهة , وبالولاء المطلق للثقافة السائدة التي تمثلها المؤسسات الرسمية من جهة أخرى , وليس المثقف في نظرهم سوى حلقة الوصل التي تعيد أنتاج هذا المعنى ولكن في حقول معرفية شتى : على مستوى الحقل العلمي والإبداعي وحتى التاريخي إذا كانت رؤية المثقف التاريخية تقتصر على رؤية ما ينبغي أن يحدث وتوظيفه في سياق هذه الرؤية . هذا الوضع أدى فيما أدى إليه إلى قطع الصلة بين وعينا التاريخي وبين الوطن كمفهوم حيث لا يمكن فهمه خارج نطاق هذا الوعي . وإذا كان المثقف عندنا ارتضى بأن يكون في أغلب حالاته التاريخية جزءا من الهوية التي يعاد انتاجها في أذهان الناس بالاعتبار السابق . ولكن عندما حاول فإن محاولته أساءت وجهتها ,وذلك بالتخلي عن الوعي التاريخي كمسار استراتيجي للخلاص من المآزق العديدة التي تمر بها مجتمعاتنا في اللحظة الراهنة . ولا يمكن في هذا السياق أن ننخدع بالأطروحات والدراسات وبعض الآراء التي تطل علينا من هنا وهناك بوصفها الدواء الناجع لأغلب المشاكل الفكرية والثقافية والسياسية التي نعاني منها حاليا . فقط تحولات المشهد الثقافي تشير إلى أن الوعي الإبداعي أصبح هو البديل في الرؤية النقدية لخطاب الوعي التاريخي الذي كان يفترض هو الذي يتسيد الساحة الثقافية عندنا . ولا يعني ذلك فيما يعنيه الدخول في مفاضلة بين الوعي الإبداعي من جهة , وبين الوعي التاريخي من جهة أخرى . لكن المسألة على أهميتها لا تكمن هنا . أننا نريد أن نعيد للتاريخ وجاهته من ناحية , وكذلك للإبداع من ناحية أخرى , ولكن ليس على الواحد منهما ضد الآخر . هذه الحالة الأخيرة ماثلة أمامنا في المنتج الروائي الذي بدأ يأخذ مبررات وجوده من خلال التحولات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي مرت بها مجتمعاتنا الخليجية في الآونة الأخيرة . هذه المبررات والدوافع رغم أهميتها التوثيقية والتسجيلية للباحث وكذلك المبدع , إلا أن تحويل هذه الشروط التاريخية كوعي إبداعي تتطلبها اللحظة الراهنة , هو في ظني الرهان على إرساء قواعد التوازن بين متطلبات الوعي التاريخي والوعي الإبداعي . وسأضرب مثالا واحدا على مثل هذا الرهان . أورهان باموق الروائي التركي الذي حصل على جائزة نوبل للآداب مؤخرا, في روايته « اسمي أحمر « التاريخية والتي تتخذ من الفن التشكيلي الإسلامي موضوعا لها ومرجعية لإعادة قراءة التاريخ الإسلامي , وذلك ضمن تاريخ علاقات الشد والجذب بين العالم المسيحي من جهة , وبين العالم الإسلامي من جهة أخرى حينما كانت تتنازعه قوتان حاكمتان الحكم العثماني والحكم الصفوي . في هذا العمل نجد الوعي الروائي وقد تحول إلى رؤية واعية للتاريخ والعكس صحيح دون أن يكون هناك تغليب رؤية على أخرى . ما معنى هذا الكلام ؟ معناه بالدرجة الأولى أن زاوية النظر إلى تاريخنا الإسلامي انحرفت عدة درجات في مسار كسر جمودها سواء على مستوى اللغة التنظيرية , أو البناء الفلسفي المعرفي , حيث دخلت في لعبة التأويل الروائي الذي ينشط الذاكرة , والأهم هو أن يعيد الاعتبار للقارئ ولشريحة واسعة من الجماهير المهمشة . أي حينما يكون هناك عمل روائي يتعاضد فيه الوعي الروائي والوعي التاريخي ليقدما من خلاله رؤية استثنائية لا يقتصر فهمها وأثرها على فئة معينة من الناس كما هو الحال على سبيل المثال في فهم الرؤية الفلسفية البحتة , أو الدراسات التاريخية المتخصصة . لا هذا ولا ذاك . هذه الرؤية الاستثنائية عابرة للتصنيفات والحقول المعرفية . من هنا تكمن أهميتها للقارئ العربي وليس الغربي , لأنها تقدم التاريخ خارج نطاق الوعي الإيديولوجي , وخارج نطاق كل مؤثر لتاريخ التحالفات بين المؤرخ من جهة , وبين الخطاب السياسي , واللغة التراثية المسيسة من جهة أخرى . ونحن نعلن تماما أن التاريخ الروائي الغربي هو الرافد الحقيقي لازدهار الدراسات التاريخية والفكرية وحتى الفلسفية , ضمن هذه الصلة هناك فلسفة فرويد , بول ريكور , امبرتو ايكو ... ألخ . إن رواية باموق بنسيجها الفني المحكم تعالج أزمة التوتر بين الشرق والغرب . لكنها لا تكتفي بذلك كما هي الحال في الدراسات التاريخية . إنها تعالج في أثناء ذلك من خلال سرد حياة شخصيات الرواية ( قرة, شكورة ...ألخ ) التوتر النفسي والروحي والاجتماعي والسياسي والديني , وهذا ما لا تضطلع به الدراسات التنظيرية البحتة . لقد قام سارتر بتحويل فلسفته الوجودية إلى عمل روائي ومسرحي ( الأيدي القذرة على سبيل المثال ) . إن التاريخ الروائي هو تاريخ ما لم يقله التاريخ نفسه . ويمكن تصنيف روايات باموق وكذلك أمين معلوف ضمن هذا التوجه العام في الرواية العربية . وحينما نعود إلى مشهدنا المحلي بالنظر إلى الإشكالية السابقة ماذا نجد ؟ تراكم المنجز الروائي لا يعني بالضرورة اشتماله على الوعي التاريخي حتى لو اعترضنا معترض قائلا بأنه لا توجد روايات تاريخية بالمعنى الاحترافي للكلمة. ما أعنيه بالوعي التاريخي هنا هو غياب مفاهيم أساسية كشرط للدخول في الحياة الحديثة كالديمقراطية والوطن والمواطن والتسامح والاختلاف , والممارسة الإبداعية تأتي في قلب هذا الشرط . لذلك ما ينجز روائيا في اللحظة الراهنة هو مشروط في ظني بروافد مهمة لا أظنها متوافرة سواء على مستوى الفهم والتحليل أو على مستوى الموضوعات المطروحة للفهم كالمواطنة على سبيل المثال . وهذه المشروطية لا تعني الإلغاء أو التراتبية بأي حال من الأحوال , لكنها تعني التناغم في مسيرة المجتمع للدخول في الوعي الحداثي دون نشاز أو مفارقات صارخة نجدها غالبا في طريقة الاستقبال والتلقي للعمل الروائي سواء على مستوى المؤسسة الرسمية أو على مستوى المبدعين والمثقفين أو خارج نطاق النخبة . هذه الطريقة في الاستقبال تدل دلالة قاطعة على هشاشة السياق الثقافي الذي تتكئ عليه الرواية . فمسألة النشر والطبع أصبحت مسألة استراتيجية يتعاضد على إنجازها دور النشر من جهة , والمؤلف من جهة أخرى . والقيمة الفنية بسبب هذه الهشاشة لا يمكن امتصاصها ومجادلتها على محك التجربة والخبرة التاريخية لأنه طالما لم نفتح مجرى النهر على ماذا جرى ؟ ولماذا ؟ وكيف ؟ سوف ننتج نصوصا مشوهة لا تعتمد على التنوع , وإنما على النمطية والنسخ فقط . إن فكرة اكتشاف الوطن هي تقع في قلب الرؤية إلى الإبداع من جهة , وإلى الرؤية إلى تأسيس مجتمع مدني من جهة أخرى . وهذا لا يتأتى إلا إذا أعدنا الاعتبار إلى مفهومين أساسيين للثقافة المحلية هما مفهوم الوعي التاريخي , ومفهوم الإنسان الحديث . وما بينهما يكمن سر الإبداع وتوهجه على مستوى الحضارات وتأثيراتها على الإنسان والمجتمع.mohmed_z@hotmail.com