محمد الحرز
في احد مشاهد المسرحية العبثية « المغنية الصلعاء» لجوبونتسكي يتبادل الزوجان مقاعدهما في حركة عبثية لا تنتهي , الزوج يأخذ مكان زوجته وكذلك الزوجة. المشهد برمته ذكرني بتاريخ العراق المتمحور حول الصراع على السلطة وتقسيم الثروات , ما أن يستولي حزب على السلطة حتى يتحول إلى جلاد والمعارضة إلى ضحية.وما أن يسقط هذا الحزب حتى يتحول إلى ضحية والمعارضة التي حكمت إلى جلاد , حيث ما بينهما امتلأت ذاكرة الشعب العراقي بآلاف القصص والحكايات التي تعكس المآسي جراء الممارسات التعسفية والعنفية لذهنية السلطة الحاكمة. وقد يكون مشروع تأسيس دولة قائمة على الحريات والحقوق والمؤسسات المدنية من أكبر ضحايا هذه الأنظمة الشمولية ليس في العراق وإنما في المنطقة برمتها . عندما سقط نظام صدام كتبت متفائلا بمرحلة عراق ما بعد صدام , ورغم قسوة الاحتلال وخططه التي لا تخفى على أحد في تقسيم العراق, ومن ثم إضعاف المنطقة بأكملها, فإن تاريخ العراق علمنا أن العراقيين قادرون على طرد المحتل لأن إرادة العيش المشترك ضمن التنوع الطائفي من أهم مكونات نسيجه الاجتماعي, بالرغم من الاحتراب الذي طال الطبقة السياسية ومظاهر العنف الدموي التي اتسمت به ابان سقوط الملكية وما تلا هذا السقوط من صراع دموي على السلطة. حاليا هذا المكون القوي بدأت خيوطه تتفكك تحت مسمى الاقتتال الطائفي والقتل على الهوية. من المسؤول هنا ؟ كل طرف يلقي التهمة على الطرف الآخر والخاسر الأكبر هو بناء عراق المستقبل. لقد هيأ الاحتلال الأمريكي وكذلك فلول القاعدة الظروف المساعدة على هذا التفكيك رغم اختلاف المبررات والدوافع . لكنه على أية حال لم يكن السبب المباشر في تفاقم هذه الأزمة على المستوى الاجتماعي وليس السياسي . لقد كان السبب المباشر في تصوري هو المفهوم السياسي الذي تمارسه كل طائفة الذي هو وثيق الصلة بالمصلحة العليا للطائفة وليس المصلحة العليا للوطن بوصفه مشروع بناء هوية للمستقبل . هذه هي الحلقة المفقودة في المعادلة الحالية داخل العراق . لذلك الممارسة السياسية من خلال هذا المفهوم لا تنفتح على المستقبل بقدر انفتاحها على الماضي , وبالتالي استدعاء المخزون النفسي والفكري والعقائدي في تفسير كل سلوك سياسي يمارسه هذا الطرف أو ذاك دون الأخذ بعين الاعتبار السلوك السياسي نفسه على اعتبار أنه نتاج عوامل متعددة ومتداخلة يصعب فرزها في أغلب الأحيان , منها ما هو يخضع لعوامل إقليمية ودولية , ومنها ما هو محلي بامتياز . خذ على سبيل المثال الكلام الذي يدور في وسائل الإعلام حول ملابسات التعجيل في إعدام صدام من طرف الحكومة العراقية , وما صاحبها من تصوير لمراحل الإعدام كاملة, يضاف إلى ذلك توقيت الإعدام في أول أيام العيد للمسلمين . لقد تم تحليل هذا السلوك الذي أقدمت عليه الحكومة بأنه سلوك طائفي بامتياز دون محاولة فهم هذا السلوك وأبعاده المتجذرة في التاريخ والذاكرة. لأن محاولة هذا الفهم في ظني يقلل الاحتقان الطائفي , ويفتح الباب على مصراعيه للمصالحة الوطنية . لكن هذا لا يمنع من القول ان إعدام صدام في ظل الاحتلال , وفي توقيت مسيء يمس مشاعر المسلمين هو غباء سياسي بالدرجة الأولى , لا يخدم في الظرف الراهن المصلحة الوطنية , بل يكرس الشرخ الطائفي , ويزيد الاحتقان المذهبي . وبالتالي لا يمكن القبول مطلقا بأي مبرر تتذرع به حكومة المالكي لقبول إعدام صدام مهما قيل عن احتقان الشارع العراقي المطالب بالثأر من جرائم صدام, وكذلك عن مخاوف وجود صفقة لتهريب صدام من السجن.. الخ . لقد كان صدام من أكبر اللاعبين المؤثرين في الساحة الإقليمية في الثلاثين سنة الماضية , ولا يمكن محاكمته على قضية واحدة مثل قضية الدجيل فقط , ومن ثم يعدم هكذا . الجريمة التي ينبغي أن يحاكم عليها هي «خراب العراق» حسب تعبير رشيد الخيون, لا أن يتم تصويره – للأسف- من خلال ما تسرب من لقطات مصورة وكأن عملية الإعدام مجرد ثأر شخصي لا أقل ولا أكثر . ولكن دعونا نتساءل هنا هل يمكن أن نستنتج من حدث إعدام صدام ان هدفه طائفي بحت كما صرح به بعض المحللين السياسيين ؟ من السهولة بمكان أن نلقي باللائمة على هذا المصطلح وكفى وكأن مصطلح الطائفية مقطوع الصلة بأي تاريخ للمجتمعات. لهذا أقول من باب الفهم والتأني في إصدار الأحكام ينبغي أن نأخذ في الحسبان عندما نريد أن نقيم موقفا أو سلوكا سياسيا لهذه الفئة أو تلك خصوصا إذا اعتبرنا – كما قلنا سابقا- أن مفهومهم السياسي لا يتجاوز حدود المصلحة العليا للطائفة . التركيبة النفسية والشعورية وثقافة الرأسمال الرمزي التي تستدعى في مثل هذه الأزمات . بالتأكيد هذا الاهتمام بالجانب المعرفي الثقافي من أبعاد التأزم الطائفي يرسم خريطة طريق نحو التفكير في المستقبل بالقدر الذي يرسم خريطة تضيء الطريق إلى فهم التاريخ واستيعاب مؤثراته على حاضر الأزمات التي يمر بها المجتمع. دون ذلك سوف ينجر الجميع إلى طاحونة تدور حول نفسها دون أن تتوقف قبل أن يسقط الجميع على الأرض, ولن يستثنى في السقوط المثقف الليبرالي أو القومي أو الإسلامي , كلهم وسط الأزمة سواء. وإذا نظرنا من جانب آخر نجد أن ما يزيد الطين بلة وهو المزايدة على الحدث من طرف الإعلام العربي الذي وجد نفسه محشورا في المأزق الطائفي في العراق ولأسباب من أهمها عدم استقلالية الصحافة والإعلام من هيمنة السلطة السياسية والجماعة المتنفذة في الوطن العربي . من مظاهر هذا المأزق استدعاء بعض المصطلحات للتعبير عن الوضع العراقي الراهن من قبيل المشروع الصفوي الذي هو حالة تاريخية لا يكشف ولا يؤدي إلى فهم الواقع بقدر ما يحجب الحقائق ويجعل تفكير معتنقيه تبريريا وتفسيريا لحالة تاريخية مسقطة على أزمات الحاضر , وهذا نوع من الانغلاق , يزيد حالة وعمق الأزمة الطائفية , وبدلا من أن يكون الإعلام مساهما حقيقيا في توعية الناس لمخاطر هذا النوع من التفكير, نراه ينخرط في ترسيخ هذا النمط من التفكير للترويج لمثل هذه المصطلحات بوعي منه أو بدونه . لا أدري - والحالة هذه - كيف يمكن للعراق أن ينهض من ركام العنف الطائفي ؟ إذ ليس العراق في واقعه الحالي سوى الشاهد الأكبر على سقوط العرب في وجه المشروع الأمريكي المهيمن على المنطقة , ومسألة النهوض لا تبدأ إلا من خلال تحويل الهوية الطائفية إلى هوية تكون بمثابة المشروع للمستقبل لا المشروع المنغلق على الماضي , شريطة أن ترتبط هذه الهوية بمبادئ الحرية وحقوق الإنسان ووحدانية الحضارة العالمية التي شبهها احد كبار الباحثين بسمفونية واحدة ذات الحان متعددة . وعندما تتحول الهوية من معطى يقدمه لنا الماضي إلى مشروع للمستقبل بصيغة أصحابها فإنها يمكن أن تتماهى مع العالمية , وأن تصير صانعة للأممية الإنسانية . إن التبعية للماضي لا تصنع إلا العبيد المستتبعين للآخرين. أما صنع المستقبل فهو الذي يحرر الناس , والتبعية للماضي تعود أصحابها على الخضوع بينما تجاوزها يفتح آفاق المستقبل , ويعبر عن الإرادة , وما الحرية إلا فعل الإرادة. ولكن يظل السؤال قائما وبقوة وهو كيف يتحقق ذلك ؟ ألا يجب على أصحاب القرار السياسي في العراق أن ينتبهوا لوعورة مثل هذا السؤال لأنه بكل بساطة ينزلهم من السماء إلى الأرض.mohmed_z@hotmail.com