محمد الحرز
ما العمل الثقافي ؟! سؤال يطرح نفسه بقوة باعتباره الرهان الأكبر على تجاوز المعوقات التي تواجه الدولة والمجتمع السعودي على شتى الصعد والمستويات . وليس هذا الرهان مجرد حالة طارئة لاتصاله بالظروف الراهنة التي تعيشها البلاد خصوصا فيما يتصل بظاهرة تنامي التطرف الفكري الذي هو وثيق الصلة بالعنف السياسي المنظم الذي تمارسه بعض التنظيمات الجهادية كالقاعدة وغيرها .. وإن كان هذا سببا آخر يذهب فيه العمل الثقافي لأن يكون في قلب التصورات السياسية للدولة وخططها التنموية الشاملة. لكن هذا النوع من الرهان- في حقيقة الأمر- يعتبر من الأهداف والغايات الاستراتيجية لكل عمل يتوجه إلى الثقافة بسبب كون الثقافة ذاتها تملك القدرة على رسم هوية معاصرة للمجتمع والدولة, أقل وظائفها هو التمحور حول شعور موحد ومتين يتسم بالانتماء والمواطنة واحترام قيمة الفرد( وليس الفردانية المرتبطة بالليبرالية الاقتصادية الغربية) الاجتماعية والعقائدية والفكرية. وأكثر وظائفها أهمية تلك التي تلعب دور الحاضن والمؤثر في السلوك اليومي للفرد والمجتمع والمؤسسة وسياسات الدولة, بحيث يصبح هذا السلوك سمة عامة ورابطا قويا يجمع بين فئات المجتمع المختلفة ويوحدها ضمن ما يسمى بالخصائص العامة لأي مجتمع . لكن قبل أن نسترسل في الكلام ماذا نقصد هنا بالثقافة ؟ وماذا نرمي من وراء مصطلح العمل الثقافي؟ هل يعني فيما يعنيه أننا لا نملك ثقافة وعلينا أن نعمل حتى نمتلكها على مستوى المجتمع والدولة؟ أهذا هو المقصود أم أن القصد يرتبط أساسا بالمنظور والقيمة والفهم والتصور الذي يتحدد من خلالها ماذا تعنيه الثقافة بالنسبة لنا كمجتمع سعودي من جهة, ومدى علاقتها(أي الثقافة) بالعمل بوصفه – على الأقل بالنسبة للمثقفين الفاعلين وأصحاب القرار السياسي- مجموعة من الممارسات ووضع الخطط والاستراتيجيات بهدف الوصول إلى الفاعلية والإنتاج والأمن والاستقرار والرخاء والانفتاح من جهة أخرى . رغم ما يتخلل بعض هذه الأهداف من غايات سياسية إيديولوجية تمس الدولة من العمق بسبب الطبيعة الهشة لسلطة الثقافة على الدولة إلا أن الإيمان المطلق بالعمل الثقافي ودمجه في بعض وجوهه بالقرار السياسي عند كبار رجالات الدولة هو نوع من الإنجاز في حد ذاته , سوف يفضي بالتأكيد عبر الممارسة في هذا المجال إلى متغيرات واعية تضع مصلحة الوطن والمواطن فوق أي اعتبارات أخرى . ناهيك عن الإنجازات والمكتسبات المعرفية والعلمية التي يمكن تحقيقها من خلال هكذا توجه.إن المطالبة برسم هوية ثقافية معاصرة هذا يعني أننا ننظر إلى المستقبل لا إلى الماضي, وهي نظرة معيارية يمكن الاعتماد عليها في وضع الحدود الفاصلة بين ثقافة فاعلة وأخرى تصل حد الضرر بمستقبلنا ومستقبل أبنائنا. لذلك وضع الحدود والفواصل هي من الأولويات والمهمات الثقافية التي تفرضها علينا اللحظة الراهنة, وهي مهمة من أهم شروط إنجازها وضع ثقافتنا بتنوعها الفكري على المحك التاريخي . وهذا معناه ضرورة نزع القدسية عن بعض الأفكار لأن البحث عن جذورها سوف يؤدي إلى هذه النتيجة بالتأكيد, وهذا دور مؤسساتي بامتياز. هذا وجه من المسألة , أما الوجه الآخر فهو كالتالي : إن المعضلة التي تواجهنا في الثقافة المحلية تكمن في تلقين الفرد ثقافة موجّهة وإلا فكيف يتسنى لنا أن نفسر وجود أكثر من أربعين شابا سعوديا في صفوف « فتح الإسلام « في معركة نهر البارد في شمال لبنان ؟ أليس مثل هذه الثقافة الموجهة هي من ألقت بهم في أتون هذه المعركة, وغيرها من المواجهات المسلحة التي تشهدها الساحة العربية من هنا وهناك, وكلهم في نهاية الأمر ضحايا هذه الثقافة الموجهة التي غايتها بالأساس خدمة أغراض سياسية مغلفة بعبارات أسلاموية لا تمت إلى الحياة المعاصرة بصلة ؟ هذه الثقافة لا يمكن التعبير عنها إلا بأنها تشبه الزائدة الدودية إذا لم تستأصل من جسم الإنسان فإنها بالتأكيد ستنفجر يوما ما في بطنه مسببة له تسمما تعرض حياته للخطر. ولكن كيف ؟ لقد صرح أغلب الكتاب في صحفنا المحلية بخطورة مثل هذه الثقافة على أمن المجتمع وتماسكه, وشنوا حمالات نقد لاذعة على الدعم اللوجستي الذي تلقاه هذه الثقافة من بعض الفئات التي تتبنى أفكار هذه الثقافة ومعتقداتها, ناهيك عن مطاردة الدولة لهم , وتضييق الخناق على المحرضين منهم . ولكن هل أجدى ذلك ؟ على المدى الزمني المتوسط قد تبدو وسائل الضغط من أجهزة إعلامية ومنبرية وأنشطة مؤسساتية توعوية وتثقيفية قادرة على الحد من تمادي مثل هذه الظاهرة . لكن المسألة في ظني لا تتعلق فقط بتنظيف وإنارة واجهة المنزل , وإنما حتى غرفه الداخلية وممراته السرية تحتاج إلى تنظيف وإنارة, وهذا العمل يتطلب لإنجازه فترات زمنية تقاس بالأجيال وليس بعقد من السنين , لأن طبيعة التأثير الفكري في العلاقات الاجتماعية لا تتضح معالم مؤثراتها في الحياة الفردية والاجتماعية إلا بعد أن تمضي سنون طويلة تختمر خلالها الأفكار في العقول عبر سياقات متعددة من التلقي والتربية والتعليم والمحاكاة , وهكذا بحيث يصعب عندها اجتثاث الأفكار السامة من العمق . إن هذه النظرة للأزمة تقودنا إلى الاعتراف بالحقيقة التالية : إن أي ثقافة لا يمكنها أن تموت (ليس بالمفهوم الفيزيائي للكلمة , وإنما بالمفهوم المجازي) وإنما الضمور والتساكن هو أقرب توصيف لها , لكن هذا التساكن داخل أي ثقافة يبقى متحفزا للظهور , ويبحث له عن فجوات من هنا وهناك يتسلل من خلالها إلى الحياة الفردية والاجتماعية , ويمكن أن يقوي من مواقعه وضرباته أذا برزت عوامل خارجية تؤثر بصورة أو بأخرى على مجرى الأحداث التي تمس البلد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا مثلما هي عليه الحال في الوضع الإقليمي التي تشهده منطقة الشرق الأوسط . هذه العوامل لا يمكن استبعادها من تحليل الوضع القائم , بل أذهب إلى القول إن التلازم بين هذه العوامل وطريقة طغيان أي ثقافة على المجتمع تصل حد التلازم العضوي الذي لا يمكن الفكاك منه إلا بانتفاء شروط وجود العوامل ذاتها. هذا النوع من التحليل في ظني يعطينا القدرة على فهم طريقة اشتغال أي ثقافة ومدى قدرة تأثيراتها على عقلية الفرد والمجتمع وكذلك على عقلية الدولة , وبالتالي القدرة على التعامل معها دون أن يؤدي هذا التعامل بالضرورة إلى الصدامية أو الاجتثاث أو حتى الإلغاء . إن التربية الجمالية هي من أهم وسائل الضغط التي يمكن استغلالها في ملء الجانب العاطفي والروحي الذي تستغله تلك الثقافة الموجهة , وهو دور منوط به بالدرجة المؤسسات الثقافية وأجهزتها المتعددة على طول البلاد وعرضها , ولكن كيف يكون شكل هذا الدور , أو من أي زاوية يمكن الانطلاق منها , في تصوري هذا هو مربط الفرس الذي ينبغي علينا أن ننشغل به كمثقفين مهتمين بالشأن العام للبلد العزيز علينا جميعا. قد تكون وزارة الثقافة معنية بهذا الدور أكثر من غيرها في ظن الجميع , لكن أليس الشأن الثقافي هو في العمق منها شأن سياسي يرتبط بأجهزة الدولة من دون استثناء ؟mohmed_z@hotmail.com